الاثنين، 21 ديسمبر 2009

بلير وحكم التاريخ

الجمعة 18/12/2009
قبل رحيله من منصبه، تحت الضغط الشعبي والحزبي، أصيب توني بلير، رئيس الحكومة البريطانية السابق، بلوثة الهلوسة في وسائل الإعلام البريطانية، المقروءة والمرئية، وقوله في معظمها ان التاريخ سيحكم عليه في الحرب على العراق. وأكد قناعته في ضرورتها والتخلص من صدام حسين، ولكنه قبل شن الحرب كان هو ومساعدوه يحشدون الرأي العام على ضرورة التخلص من أسلحة الدمار الشامل العراقية، هدفا رئيسيا لحملتهم على العراق، وصولا إلى الكذبة الكبرى، المسروقة من أطروحة طالب عراقي في جامعة بريطانية كتبها قبل الحرب بعشر سنوات، لإقناع البرلمان والشعب البريطاني بمخططات العدوان والحرب. وبعد عزله عينته المصادر(؟) التي تدافع عنه مندوبا للرباعية الدولية في القضية الفلسطينية لإكمال مهماته التي أرسل من اجلها وتحمّل كل تهكمات الإعلام الغربي والبريطاني خصوصا عنه وعن تبعيته المطلقة للإدارة الأمريكية ولمصادره والرئيس الأمريكي السابق بوش الثاني. وكأن توظيفه في هذا المنصب ومناصب استشارة لعدد من البنوك الأمريكية وإهدائه بعض القصور في مناطق عدة للاستراحة والسياحة فيها (من بينها في بعض البلدان العربية!) مكافأة لما قام به ونفذه في العراق، حتى ترشيحه لرئاسة الاتحاد الأوروبي كجائزة إضافية، إلا انه هنا فشل لعناد الماني فرنسي. وفي كل هذه الهمروجة لم يجر أي سؤال عن الشعب العراقي والشعارات البراقة التي لما تزل الإدارة الأمريكية والحكومة البريطانية تتغنى بها وتتفرج على الكوارث المتلاحقة التي انصبت على رؤوس العراقيين بسبب العدوان والحرب والاحتلال.
تحت ضغوط عوائل الضحايا البريطانيين والرأي العام اضطر رئيس الوزراء الحالي غوردون براون، تظاهرا أو لحساباته هو الآخر، إلى تشكيل لجنة تحقيق في الحرب، ودروسها منذ عام 2001 إلى انسحاب وحدات بريطانية 2009 مع الأخذ بالاعتبار ان تشكيلها على طريقة سابقاتها، ومنهج الحكومات البريطانية، في اتخاذ إجراءات تميع هدفها وتجريدها من كل صلاحية فعلية وتحويلها إلى هياكل إدارية بصيغ لجان تحقيق!. فعيّن لجنة غير مختصة بالتحقيق والقضاء، من موظفين رسميين متقاعدين، ومن بينهم من امتدح المسبب الأهم في كل القضية، توني بلير، وشبهه بتشرشل وايزنهاور، مثلا. ومعظم الذين سيستجوبون فيها موظفون رسميون أدوا واجباتهم الرسمية، وقد كتب اغلبهم كتبا عن تلك الفترة وجنوا منها ما اربحهم تجارة بما لديهم من معلومات حول الحرب والعدوان على الشعب العراقي والعرب والمسلمين معا. إضافة لبعض الرموز الدوليين، إذا اقتضت الظروف، ككوفي عنان وهانس بليكس وغيرهم. ومع ان اغلب المعلومات كانت قد عرضت بشكل أو بآخر في حينها إلا ان وجود بلير في راس السلطة ومصادره المحيطة به تمكنت من التستر على معظم ما يجري التحدث عنه الآن في جلسات اللجنة، المسرحية الجديدة. ومن بين ما أشير إليه ما أوردته مثلا وسائل الإعلام من ان المستشار القانوني الرئيسي للحكومة البريطانية بيتر غولدسميث كان قد نبه عام 2002 رئيس الوزراء آنذاك بان الإطاحة بالرئيس العراقي السابق صدام حسين ستكون مخالفة للقوانين الدولية. وذكرت صحيفة ميل اون صنداي (29/11/2009) ان المدعي العام والمستشار الرئيسي غولدسميث، حذر بلير خطيا بعدم شرعية اجتياح العراق قبل ثمانية اشهر من الهجوم العسكري، غير ان رئيس الوزراء السابق لم يأخذ برأيه. وبحسب الصحيفة فان الرسالة في عهدة لجنة التحقيق التي بدأت أعمالها أواخر تشرين الثاني/نوفمبر. وأكدت الصحيفة ان غولدسميث اجبر على التزام الصمت بعد محاولته إثناء بلير عن دعم الحرب على العراق. وكان غولدسميث وجه الرسالة بعد اجتماع للحكومة البريطانية في 23 تموز/يوليو 2002 تبلغ خلاله الوزراء سرا ان لندن وواشنطن عازمتان "على تغيير النظام" في العراق، بحسب الصحيفة. وغولدسميث الذي حضر الاجتماع سجل معارضته ووجه في 29 من الشهر نفسه رسالة إلى بلير، وهو احد أصدقائه المقربين، مفادها ان الحرب لا يمكن تبريرها بحجة "تغيير النظام". وبالرغم من ان قوانين الأمم المتحدة تسمح "بتدخل عسكري للدفاع المشروع عن النفس" فان هذا الأمر لا ينطبق على حالة العراق لان صدام حسين لا يشكل تهديدا لبريطانيا، بحسب ما أورد غولدسميث في رسالته. من جهة أخرى أكد احد أصدقاء غولدسميث للصحيفة ان بلير "استشاط غضبا" بعد تسلمه الرسالة مضيفا ان غولدسميث تعرض لضغوط مارسها مقربون من بلير ما دفع به إلى التلويح بالاستقالة. ولكنه "قدم حججا قانونية حول النزاع قبل أيام من اندلاعه في آذار/مارس 2003 في عرض مقتضب تمت صياغته بتأن"!.
كما كشفت صحيفة "ذي صنداي تلغراف" عن معلومات سرية أخرى تفيد ان التخطيط لاجتياح العراق عام 2003 بدأ قبل عام من وقوع الحرب مستندة إلى تصريحات أدلى بها مسؤولون عسكريون كبار في جلسات خاصة قالوا خلالها ان التحضير للحرب استمر طوال اشهر قبل ربيع عام 2003، ناقلة عنهم ان "الاستعدادات لم تكن بالحجم المطلوب إذ أنها لم تؤمن التدريب والتجهيز اللازمين لحرب كهذه". وكتبت الصحيفة ان المستندات هي عبارة عن مقابلات وشهادات مكتوبة موجودة لدى وزارة الدفاع البريطانية، جمعتها الوزارة في إطار تقييم داخلي أجرته للحرب على العراق. وأضافت الصحيفة انه وفقا لهذه المستندات، قال قائد القوات الخاصة البريطانية الميجور جنرال غرايم لامب انه "بدأ بالعمل على التحضير لحرب العراق منذ فبراير/ شباط عام 2002"، اي قبل عام وشهر على بدء الغزو. ولكن رئيس الحكومة حينها بلير قال للجنة نيابية في مجلس العموم في يوليو/ تموز 2002 ان "لا مخططات ولا تحضيرات تجريها بريطانيا للمشاركة بالحرب"، وذلك قبل تصويت مجلس العموم على المشاركة في الحرب.
نشرت هذه المعلومات مع بدء لجنة التحقيق حول مشاركة بريطانيا في الحرب على العراق وما إضافته اللجنة هو تأكيد كل المعلومات السرية أو المتسربة عن جريمة الحرب والاحتلال ومشاركة بلير الشخصية في تنفيذها.
ورغم ذلك فما تكشفه اللجنة هو جزء من حكم التاريخ بحق توني بلير، والتاريخ لن يهمل ما دونته صفحاته.