الاربعاء 25/11/2009
أٌختصرت الأوضاع في العراق الآن حول قضية الانتخابات التي قد يتغير موعدها، رغم كل التحضيرات والضغوط بصددها. وبلا شك هذا الأمر لا يخلو من توجه مشترك أو متفق عليه بين الإطراف المستفيدة من استمرار الأوضاع لما بعد 2003 لاسيما القوى السياسية المساهمة في العملية السياسية، التي، كما هو معلوم، من تصنيع إدارة الاحتلال الأمريكي البريطاني والتداخلات الإقليمية. ومهما ظهر من احتفالات تشكيل التيارات والكتل، التي لم تستفد من تجربتها التاريخية ولم تغير من ممارساتها ولم تتعظ من دروس وعبر التاريخ القريب والبعيد فأنها تدور في دائرة مرسومة بشروط مخطط لها ومصالح بأبعاد إستراتيجية. وهذا واضح من إغفال أو إنكار اغلبها إلى دور الاحتلال ومؤسساته في كل ما يجري في العراق منذ تاريخه. ولم يتضح بعد مدى استفادة الإطراف المشتركة في هذه الانتخابات من هذه الصورة للمشهد السياسي، الذي وصل الأمر فيه إلى تدخل السفير الأمريكي الحالي كريستوفر هيل، داخل قبة البرلمان(!)، إلى تسوية سياسية بين المكونات الطائفية والاثنية، التي لم تتغير رغم كل الحديث عن أضرارها، والاتفاق على قانون للانتخابات ومن ثم الاعتراض عليه ونقض فقرة فيه وتلاه نقض النقض والعودة إلى الدوران في المربع المعروف للجميع، واستمرار الحال دون الانتباه إلى الوقائع المرة على الأرض والركون إلى الأمر الواقع بغياب أية حلول إستراتيجية وتكتيكية لحاضر ومستقبل الوطن وثروات الشعب والإدارة السياسية.
الاحتلال هو التحدي الأكبر أمام الشعب العراقي ومستقبله وثرواته. استمراره بأشكال مختلفة أو ألوان أخرى لا يغير من جوهره ولا من طبيعته العدوانية وممارساته الوحشية، حتى ولو تستر بأزياء مخملية. هذا التحدي يضع المشتركين في المشهد الآن أمام اختبار فعلي لبرامج وخطط ومشاريع عملهم ويكشفها أمام التنافس والتطورات في سياسة قوى الاحتلال والاستعمار القديمة الجديدة في التفتيت والتقسيم والإضعاف والتحكم بإدارة مصالحها وأهدافها الإستراتيجية. سواء لتلك المؤيدة لها أو المناهضة، أو التي تأتمر بأوامرها أو تعلن رفضها لها، وإنْ اختلفت وسائلها أو تسمياتها وتعددت أساليبها.
من اللافت تشابه ما يحصل في المشهد السياسي في العراق الآن، سواء داخل العملية السياسية أو خارجها، ولو بدرجات أو مراحل أو مسميات. صراعات الانتخابات المفتقدة إلى ثقافتها وأسسها وتطبيقاتها العملية داخليا وخارجيا، والارتهان باسمها وكأنها طوق نجاة مطلق. أكثر من "نائب في البرلمان" حذر من أن استمرار الخلافات بين الكتل السياسية بشأن قانون الانتخابات قد يطيح بالانتخابات التشريعية. وقال احدهم لراديو "سوا"!: إن إصرار كل طرف على موقفه قد يؤدي إلى تأجيل الانتخابات وهو الأمر الذي "يضع البلد أمام آفاق ليست واضحة". بينما عبر ممثل أمين عام الأمم المتحدة إد ملكرت عن "تفاؤل حذر" حيال التطورات في العراق، قائلا: "إن هناك بوادر للتقدم على الرغم من التحديات المستمرة". وشدد ملكرت، من واشنطن، على أهمية الانتخابات العراقية المقبلة لتحديد مصير البلاد، وعلى دور الأمم المتحدة الحالي في البلاد على حل القضايا العالقة بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان وتحسين العلاقات بين العراق والكويت.
قال ملكرت: "كنا نتوقع أنه تم التوصل إلى اتفاق بعد عملية مثيرة للبرلمان المنتخب في العراق، كانت مناقشة جيدة تمثل جميع الآراء على الرغم من أنها كانت أطول مما كنا ننصح به"، مضيفا: "الآن نواجه تعقيدات جديدة"، قاصدا قرار نقض "نائب الرئيس" طارق الهاشمي. ولفت إلى أن هذا القرار قد يؤجل الانتخابات، مضيفا: "أتوقع أن التأخير لن يكون أطول من شهر، وهذا أمر يجب أن يكون مناسبا للجميع". ومهما كانت هذه الأقوال ومدلولاتها السياسية، من النواب أو من غيرهم، خصوصا من جهات خارجية، فهي كلها تصب في استمرار أو بقاء التحديات التي تواجه المشهد السياسي على وضعها، إذا لم تتفاقم سلبيا أو تنحرف إلى مسارات أخرى، وتبين التدخلات والحدود التي يراد التحرك ضمنها، كما تبدو في التباينات والاختلافات بين بعض المسؤولين في العملية السياسية. والإشارة إلى مساهمة الأمم المتحدة في العلاقة بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان، كونها تحديا آخر لم يوضع في محله الصحيح من سير العملية السياسية وبين قناعات القوى المؤثرة فيها تجعل من هذه العلاقة بؤرة صراعات مستمرة. وتؤثر إضافة إلى الاحتلال ودوره في التطورات الحاصلة أو التي يراد لها أن تحدث في العراق، ولاسيما التهديدات الكثيرة التي رسمت لخارطته السياسية والطبيعية ولثرواته ومستقبله، زيادة على التحديات الأخرى المتواصلة أمام كل القوى السياسية من جهة وكل قوة بمفردها ودورها من جهة أخرى، وهو ما تشير له أحيانا وسائل الإعلام من تصريحات متناقضة لإطراف العملية السياسية وتحالفاتهم مع قوى الاحتلال والتأثير والنفوذ الخارجي في شحن التحديات وتأزيم الأوضاع.
في الوقت الذي تتصارع القوى السياسية في العراق الداخلة في العملية السياسية الأمريكية، والتي لم تتوقف عندها وتقرأها، تقوم حكومات دول الاحتلال وبرلماناتها في التحقيق في أسباب الغزو والاحتلال والبحث في سبل الخروج من الأزمة أو الورطة العسكرية المباشرة التي تسببت من جرائه مع احتفاظها بالأهداف الإستراتيجية منه طبعا. كما تنعكس الصورة مماثلة هي أيضا لدى القوى العراقية المناهضة للاحتلال. فرغم عملها في ضرورة إنهائه وإبطال مخططاته ومشاريعه ومطالبة دعم لجان التحقيق الدولية والأمم المتحدة وغيرها من المنظمات لها إلا أنها لم تُنشط حركة تحرر وطني من الاحتلال والاستعمار وتنقل الصورة إلى ما يعبر فعلا عن المصالح الوطنية العليا وتخليص العباد والبلاد من كارثة الاحتلال والاختلال القائمة حاليا.. وهي الصورة التي تعبر بوضوح عن أن المشهد السياسي في العراق عموما لا يبشر بما يخدم الشعب العراقي وينقذه مما هو عليه ويضعه في موقعه الصحيح، وطنيا وعربيا ودوليا. الأمر الذي يتطلب مراجعات حقيقية وعملا جادا ومخلصا من اجل الشعب العراقي ومصداقية خيارات القوى السياسية واحترام الإرادة الوطنية.
كاتب صحافي وباحث سياسي (دكتوراه فلسفة في التاريخ العربي).Writer Journalist and Researcher - PhD in Arab History صدرت له الكتب التالية: العراق: صفحات من التاريخ السياسي، فن الأنتفاضة، الحركة العمالية في العراق، الجبال .. يوميات نصير في كردستان ، لا للحرب.. خطط الغزو ..، ما يبقى.. صور وكتب، لا للاحتلال.. اسقاط التمثال وسقوط المثال بالعراق، واشنطن- لندن.. احتلال بغداد، بشت آشان.. فصيل الاعلام، العراق: صراع الارادات، المطرقة والمنجل في العراق، زمن الغضب العربي، مقالات الأخبار، ما هو داعش؟