الثلاثاء، 13 أكتوبر 2009

الإستراتيجية التركية والتجربة السياسية

الجمعة 9/10/2009
تخوض تركيا تجربة سياسية جديدة، تلعب فيها دورا استراتيجيا بارزا على مختلف الصعد، مع احتفاظها بعلاقاتها العسكرية والسياسية بحلف الأطلسي ومتطلباته المعروفة، وعلاقاتها مع أعضائه والكيان الصهيوني. تراكمت هذه التجربة لديها وتميزت بها، لاسيما وهي تقاد من حزب إسلامي المنهج براغماتي التوجهات، استطاع أن يجمع بفطنة وقدرة متنامية بين برامجه الدينية والسياسة العامة للدولة التركية التي بناها كمال أتاتورك وحرسها ورثته، خاصة القوات المسلحة. أعطت لها حيزا في قضايا المنطقة الساخنة، بل تُطلب منها المشاركة والمساعدة في إيجاد حلول ومخارج لاستفحال مشاكل أو أزمات سياسية مشتعلة في أكثر من بلد من جيرانها خصوصا أو من محيطها الجغراسياسي عموما، والعمل على تقليل التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية، واستثمار كل ذلك في تحركاتها وتصريحات مسؤوليها وعلاقاتها الواسعة. غنى التجربة، في الجمع بين تراثها وهويتها والمتغيرات المعاصرة وفي تخطيط إستراتيجيتها منح النخبة السياسة التركية التي تدير الدولة لحد الآن جدارة بمكانها وعلامات من النضج السياسي الكافي الذي بوأها هذه المكانة المقبولة إقليميا ودوليا. لقد خاضت تركيا انتخابات ديمقراطية، فاز الحزب الحاكم فيها واستطاع إيصال أعضائه إلى كل المسؤوليات الرسمية الأساسية في مختلف السلطات، التشريعية والتنفيذية والقضائية وغيرها، وحافظ على توازنات سياسية وعلاقات دولية مكنته من موقعه وتحويل بلاده، واقعيا، كدولة ديمقراطية تتنافس مع جيرانها الأوروبيين وتعطي نموذجا لجيرانها الآسيويين، عبر الممارسات والمواقف الكثيرة التي يُشهد بها، من رفض السماح للقوات الأمريكية بالدخول عبر أراضيها لاحتلال العراق، إلى الموقف المشهود لرئيس وزرائها رجب طيب أردوغان في مؤتمر دافوس الاقتصادي، إلى خطابه في المؤتمر السنوي للحزب مؤخرا. هذا فضلا عن تمكنها من بناء وضعها الداخلي وسياساتها الإستراتيجية في تنمية بلادها ومصالحها وقدرات شعبها الوطنية.
في كل هذه التطورات حافظت تركيا على التوازن الجديد في الساحات السياسية وصراعات القوى فيها. بل أخذت مسؤوليات فيها تسمح لها أن تصبح فاعلة فيها ومعبرة عن خطوط إستراتيجية جديدة لديها.
قامت تركيا بجهود كبيرة في محاولة حل إشكاليات عديدة، بين دول عربية – عربية وأخرى مع الكيان الإسرائيلي، بمباركة أو لعجز النظام الرسمي العربي، مستفيدة دبلوماسيا وسياسيا في أداء هذه المهمات لتدفع بها ضمن استراتيجياتها الإقليمية وعلاقاتها مع محيطها العربي الإسلامي خصوصا. إضافة إلى توسيع عملها السياسي والدبلوماسي في مثلث القوقاز والبلقان. ففي القوقاز خطت تركيا على طريق المصالحة مع أرمينيا وإنشاء علاقات دبلوماسية من خلال توقيع بروتوكول خريطة طريق، (عقد في زيوريخ في العاشر من تشرين الأول الجاري على مستوى وزاري)، وتستقبل الرئيس الأرمني في الرابع عشر من الشهر الجاري أيضا، وتسعى من خلال هذه العلاقة أن تحلحل الأزمة الارمنية الاذرية بمتابعة عقد لقاء بين رئيسي أرمينيا وأذربيجان إثناء اجتماعات منظمة الأمن والتعاون التي ستعقد في العاصمة المولدافية، كيشيناوي. واستضافت تركيا في التاسع من الشهر اجتماعا لوزراء خارجية دول جنوب شرقي أوروبا من اجل البحث في خطط للتعاون في البلقان.
تركيا نجحت في عقد اتفاقات مع سورية والعراق وتبادلت زيارات رسمية مع السعودية ولبنان والأردن ومصر وإيران خلال فترة قريبة وقصيرة لمعالجة القضايا الساخنة فيها أو التي لها علاقة بها. من جهة أخرى توقع في حلب يوم الثالث عشر من هذا الشهر اتفاق رفع التأشيرات بين البلدين الصديقين، وسيقوم وزيرا الخارجية، وليد المعلم وداود اوغلو في مسيرة رمزية لعبور الحدود بين بلديهما. وهذه أول بادرة من هذا النوع، تحظى باهتمام ورغبة شعبية وطموح للتطوير والتغيير في العلاقات الإقليمية والعربية. كما سيقوم وفد تركي برئاسة رئيس الوزراء التركي في الأسبوع الثالث من هذا الشهر بزيارة بغداد والتحاور ضمن الاتفاق الاستراتيجي للتعاون بين البلدين ومناقشة العديد من القضايا والمشاريع الاقتصادية والأمنية والسياسية المشتركة. إضافة إلى تعزيز دورها الإسلامي مع جيرانها، لاسيما إيران، حيث سيقوم رئيس الوزراء ومعه وزير الخارجية بزيارة إلى طهران نهاية الشهر. وفي كل هذه اللقاءات والزيارات تسعى تركيا أن تضع إستراتيجية سياسية ناجحة لعلاقات جديدة، تضمن لها التجربة السياسية مسيرة النجاح والتقدم في بناء نظام إقليمي ودولي يتجاوز إخفاقات التاريخ ومرارة الحروب والصراعات السياسية الدموية، ويضمن حقوق الشعوب وثرواتها وكرامتها.
إلى جانب ذلك، قام الرئيس التركي عبد الله غول بزيارة لفرنسا وتباحث مع رئيسها نيكولا ساركوزي حول قضايا سميت بالحساسة. وسيقوم وزير الخارجية اوغلو نهاية الشهر بزيارات إلى كل من باكستان وماليزيا والإمارات العربية. مستثنيا الزيارة المقررة سابقا للكيان الإسرائيلي، لعدم الموافقة على طلبه زيارة غزة خلالها. هذا الاستثناء على ما يبدو لحد الآن، ولاسيما نفيه القاطع للقاء إي مسؤول صهيوني في قمة نيويورك الأخيرة، يضيف للمواقف التركية مصداقية اكبر في سياساتها الإستراتيجية في المنطقة. وتأتي بعد خطاب رئيس الوزراء التركي في مؤتمر حزبه وانضمام وزير الخارجية اوغلو للحزب فيه، مما يعطي لمثل هذه القضية الدبلوماسية إبعادا سياسية وتضامنية مع الشعب الفلسطيني وحركة تحرره من الاحتلال والاستهتار الدولي بحقوقه.
توضح هذه التحركات والزيارات الإستراتيجية التركية الجديدة في تخطيط وبناء منظومة متكاملة من العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية وغيرها في الدوائر السياسية المتعددة، انطلاقا من الجيران المباشرين وتامين الأمن والسلم فيها، وصولا إلى المحيط الأبعد مع السعي إلى تكامل اقتصادي معهم وبناء جسور ممتدة تربط المصالح والهموم المشتركة بين شعوب المنطقة، لاسيما العربية والإسلامية.
خلال الفترة القريبة الماضية حملت تلك المؤشرات دلالات عملية من تجربة سياسية ناجحة، بأبعاد إستراتيجية، لابد من قراءات لها والاستفادة من كل الخطط والمساعي فيها والعمل عربيا وإسلاميا، على تطويرها واغنائها وتقوية آلياتها لحاضر ومستقبل العلاقات والمصالح والأمن والسلم.