الاثنين، 5 أكتوبر 2009

حرب غزة الجديدة

الجمعة 2/10/2009
لم تنته الحرب على غزة المحاصرة. كانت الأسابيع الثلاثة أكثر من حرب واكبر من مجزرة. وغزة في محنتها تمثل كل المدن العربية والإسلامية التي انتهكت حقوقها وصبت عليها أسلحة العدوان والحروب والاستعمار وظلت واقفة تتحدى ولن تتراجع رغم كل الآلام والخسائر والإضرار والخراب والدمار والحرائق التي ألمت بها. وهي إذ تعبر عن نفسها بنفسها فان مشهدها الأبرز هو المشهد العام لكل المدن المشابهة لها، الصامدة الصابرة والمنتظرة. الحرب عليها وعلى غيرها مستمرة. لا يمكن ان تعد أيامها فقط، أثارها وتداعياتها باقية لحد الآن صارخة بان الحرب قائمة باختلاف أشكالها وأساليبها وعناوينها، ولابد ان تكون الاستعدادات لها متوازية على مختلف الصعد. العدو الصهيوني الذي شن حربه المعلومة على غزة واستخدم فيها ترسانته من الأسلحة المحرمة وغيرها، من الجو والبحر والأرض، وهزمت مخططاته فيها لم يتوقف عند حدودها. صمت كثيرون، من الأشقاء والأصدقاء، عنها، بل واشترك كثيرون فيها، وكشف عن الكثير من المواقف والممارسات والرسائل السرية والضمنية، المباشرة والملموسة في أيام تلك الحرب/ الجريمة. وظل صمود الشعب وإرادته في المقاومة والتصدي للعدوان والحرب، وكذلك الضمائر الحية وحدها تؤشر للمذبحة وتنطق بقناعاتها عنها. الحرب مستمرة، لها أبعاد وخلفيات، ولها صور وتطورات. لقد شنت قوات الاحتلال حربها وانتهكت كل القوانين والاتفاقيات والحقوق الإنسانية التي وجدت أوصافها بدون مواربة كأدلة دامغة في تقرير الأمم المتحدة. لا يمكن المقارنة ولا يمكن الرضا عن كل شيء ولكن الحقيقة لا يخفيها غربال، والوقائع شاهدة عليها. هذا التقرير عنوان حرب جديدة، للضحايا ضد القتلة، رغم ما ورد فيه عنها، فكيف تتكلم الوقائع فيها وكيف تدار المعارك؟ وكيف تتعامل معه المؤسسات الفلسطينية والعربية وغيرها؟، ليكون معلما بارزا لصراع الإرادات واختبارالايام والتحركات والمواقف، في حدها الأدنى وضمن مسارها العملي لمستقبل القضية والشعب والأمة.
الحرب على غزة بوقائعها اليومية وضحاياها التي نقلت إعلاميا بالصورة والصوت لايمكن ان تمر أو يصمت عليها، حتى إذا أراد كثيرون من الأشقاء والأصدقاء التستر عليها. المنظمات الدولية، والحقوقية الإنسانية مطالبة بتطبيق برامجها ومواثيقها ومصداقيتها. من بينها اضطرت الأمم المتحدة إرسال لجنة تقصي حقائق، محاولة اعتبار ما حصل ولاسيما لمبانيها وموظفيها انتهاكا للقانون والاتفاقيات، وواصلت اللجنة تقصيها وأصدرت تقريرها وقدمته إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. قبل ان يصدر التقرير رفضت الحكومة الصهيونية التعاون مع اللجنة، وبعد صدور التقرير تحركت مع لوبياتها للتقليل من أهميته وخطورته ووصفه للوقائع والإحداث. وصولا إلى المساعي المعروفة في التملص من الارتكابات التي تقوم بها منذ قيامها. وما تحصل عليه من دعم دولي مكشوف يضع هذه الحرب الجديدة أمام اختبارات أخلاقية وقانونية وسياسية، لابد من رصدها ومحاسبتها في إطاراتها القانونية والأخلاقية والسياسية أيضا والاستماع إلى تحذيرات اللجنة وتوصياتها، وتعرية العاملين ضده، لاسيما الإدارة الأمريكية التي اعتبرته منحازا ودافعت عن حق الكيان كدولة ديمقراطية تدافع عن نفسها، كما رددت أصوات في الكيان وواشنطن ومندوبوهم، ونست أو تغاضت عن استخدام الأسلحة المحرمة وكمياتها وأنواعها وقصف مقرات الأمم المتحدة والمدارس والمساجد والأحياء السكنية الآمنة.
ريتشارد غولدستون، رئيس لجنة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة في حرب غزة، توصل مع لجنته إلى ان ما حدث هو جريمة حرب ارتكبت فيها جرائم ضد الإنسانية، وطالب في التحقيق ومحاسبة المجرمين فيها. بعد ان دعا كلاً من الكيان الإسرائيلي وحركة حماس بإجراء تحقيقات شفافة ذات صدقية في الانتهاكات التي ارتكبت في الحرب التي استمرت بينهما، (هكذا!، كما اعتبرها هو وورد في التقرير!) خلال فترتها بين كانون الأول (ديسمبر) وكانون الثاني (يناير). وقال أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف إن "ثقافة الحصانة في المنطقة استمرت أطول مما يجب". وأضاف أن "عدم المساءلة عن جرائم حرب وجرائم حرب محتملة ضد الإنسانية وصل إلى حد الأزمة. غياب العدالة المستمر يقوض أي أمل في عملية سلام ناجحة ويرسخ المناخ الذي يشجع أعمال العنف". وحض مجلس حقوق الإنسان الذي يضم 47 دولة على التصديق على تقرير لجنته. وأجرى مجلس حقوق الإنسان مناقشات حول التقرير استمرت يوما كاملا، تمهيداً لإحالته على مجلس الأمن لاتخاذ قرار في شأنه. وللأسف رحل هذا الموضوع إلى اجل آخر، وربما إلى لفلفة له. ورغم ذلك، سبقته وما زالت دول ووسائل إعلام غربية تشن حملات انتقاديه واتهامات مكررة على التقرير واللجنة المكونة من أربعة أعضاء. رفضت اللجنة في مؤتمر صحفي، وبلسان رئيسها الاتهامات، وأشار إلى إنهم تعرضوا "لوابل من الانتقاد" بسبب النتائج التي خلصت إليها اللجنة، مؤكداً أن التحقيق لم تكن له أية دوافع سياسية. وقال: "حركتنا الرغبة في محاسبة من ألحقوا الأذى بالمدنيين من الجانبين، في انتهاك للقانون الدولي".! ورغم ذلك لم تتوقف الانتقادات له ولاسيما من الولايات المتحدة الأمريكية. الأمر الذي يعني ان التقرير يخوض معاركا ليصل إلى خلاصاته ويوثق الحقائق التي ذكرها، ويعيد بعضا من معاناة الضحايا والشهداء ويرسم للأحياء أملا في العدالة والقانون وحقهم في الصمود والانتصار. فهل ستتم كما قال رئيس اللجنة؟.
تقرير الأمم المتحدة، رغم التأجيل، يتطلب المتابعة والتواصل مع القوى والمنظمات الدولية لتفعيله وأحترام العدالة وحكم القانون، وكيلا تتكرر المجازر والانفلات من العقاب لمرتكبي جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية. إنها فرصة أخرى لحرب غزة الجديدة ولكن في القانون والتضامن الدولي والمحاكم الجزائية العالمية. وقد يكفي ان المجرمين الذين ارتكبوا المجزرة والحرب على غزة اعتبروه "سيوجّه ضربة قاضية إلى عملية السلام المتعثرة إذا ما قرّر المجلس إحالة التقرير الذي يدينها في الحرب على غزة، على مجلس الأمن". بينما المنظمات الدولية، ومنها منظمة مراقبة حقوق الإنسان "هيومن رايتس ووتش" اتهمت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي "بتقويض إحقاق العدالة في نزاع غزة"، ورأت أن "عدم تصديقهما على تقرير بعثة تقصي الحقائق في غزة يُرسل رسالة مفادها أن انتهاكات قوانين الحرب الجسيمة تُعامل بلا حزم حين يرتكبها طرف حليف". وأكدت المنظمة إن الولايات المتحدة وصفت التقرير بأنه "غير متوازن ومعيب للغاية"، من دون أن تعرض حقائق فعلية تدعم هذه الأوصاف. كما أن دول الاتحاد الأوروبي المشاركة بالعضوية في المجلس، ومن بينها المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا، صامتة إزاءه.
إنها حرب غزة الجديدة، فهل تكسب الرهان فيها وتفضح وتحاكم المجرمين؟.