الأحد، 5 يوليو 2009

بريطانيا – العراق: تمويه رسمي

الاثنين 22/6/2009
شاركت بريطانيا في العدوان على العراق ووافقت على اعتبارها دولة محتلة له بقرار من الأمم المتحدة، مع الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت قد خططت وشرعت بنفسها جريمة الغزو والاحتلال، وصنعت ذرائع ثبت بطلانها رسميا وعلنيا، ولم يتوان كثير من المنظمات الحقوقية والسياسية الأمريكية عن المطالبة بكشف الجريمة ومحاكمة مقترفيها، ومثلها في بريطانيا.
بعد اكثر من ست سنوات، تسحب بريطانيا قواتها بخسائر معلومة، بشرية ومادية، وبعد أن تعرت الذرائع والحجج التي ادعاها وبالغ فيها رئيس الحكومة البريطاني السابق توني بلير، الذي وصف بما يليق به إعلاميا بشان ما قام به لخدمة المشاريع والمخططات الأمريكية وللمحافظين الجدد ضد العراق، وتحت الضغوط المختلفة شكل رئيس الوزراء غوردون براون، يوم 15/6/2009 لجنة تحقيق مكونة من خمسة أعضاء، في مشاركة قوات بلاده في تلك الكارثة. أعلنها أمام مجلس العموم (البرلمان) مؤكدا إن التحقيق سيكون مستقلاً ويغطي الفترة من صيف العام 2001 وحتى نهاية تموز من العام الحالي.. وأشار إلى صلاحيات واسعة للجنة في الوصول إلى المعلومات الحكومية ومن ضمنها الوثائق السرية ذات الصلة بحرب العراق، واستدعاء أي شاهد بريطاني للمثول أمامها ولكنه ختم بأنها ستكون وراء أبواب موصدة لاعتبارات تتعلق بالأمن القومي. ورغم ذلك فهذه خطوة أولى في هذه القضية الخطيرة، التي لها أبعاد سياسية وأمنية قد تؤثر على مصداقيتها أو حتى نتائجها.
تأخر براون في أداء هذه المهمة وتلكأ لأسباب كثيرة، من بينها دوره فيها كوزير في حكومة الغزو والمشاكل المتوالدة التي تعصف باستمرار حكومته ورئاسته وحزبه في الحكم، وقبل الانتخابات القادمة. وكان إعلانه التحقيق سريا وخلف أبواب موصدة، قد أعطى فرصة أخرى لأحزاب المعارضة وعدد من النواب واللوردات وأهالي الضحايا والرأي العام البريطاني لانتقاده، فأعاد النظر للجمع بين الأعذار التي وضعها والرغبة العامة في معرفة الأسباب والتعلم من الدروس واحترام الشعارات التي رفعت في الديمقراطية والشفافية وإرادة المواطنين. ومهما كانت الأساليب التي سيتبعها براون واللجنة فان الكثير من القضايا باتت معروفة، وإذا كانت صور الفساد التي كشفت إعلاميا أدت إلى نتائج وخيمة، وهي غير معروفة عموما وخصوصية وشخصية في اغلبها، أي بمعنى أنها ليست كما هي عليه الحرب والماسي التي أحدثتها في العراق وغيرها، وأعداد الضحايا التي راحت جراءها وما أنتجته من حالات مكشوفة وواضحة وساهمت وسائل الإعلام بتوثيقها بالصورة والصوت والوثيقة الملموسة، التي لا يمكن التهرب منها أو التستر عليها. فكيف ستكون تداعياتها ونتائجها؟، وهل يستطيع براون وحكومته السير فيها حتى نهاياتها القانونية ويسجل سابقة بريطانية في العدالة والقانون الإنساني؟.
الشعب في المملكة المتحدة، وحتى بعض وزراء ومسؤولين كبار في السلطة، ومنظماته السياسية والاجتماعية، واليسارية خاصة، لعبت دورا كبيرا في فضح وإدانة الغزو والاحتلال والحرب وقادت اكبر تظاهرات الاحتجاج في تاريخ بريطانيا، شملت مئات الآلاف من المواطنين واستمرت دون توقف حملات الاستنكار والشجب للمشاركة الذليلة وما سببته من وقائع وفظائع، ومازالت متواصلة في المطالبات في كشف كل الحقيقة ومحاكمة المسؤولين عن الجريمة.
إضافة إلى أحزاب المعارضة، ولاسيما رئيس حزب الديمقراطيين الأحرار، ووسائل الإعلام وكثير من النواب ونشطاء السلام، جاءت ابرز الانتقادات والاحتجاجات من قادة الجيش، وهذه قضية مهمة بحد ذاتها، حيث أعلن رئيس أركان الجيش البريطاني ريتشارد دانات، تأييده للتحقيق العلني، معتبرا أن ذلك يتضمن "كمية من الفضائل". وكذلك الرئيس السابق للأركان مايك جاكسون، الذي تولى المسؤولية العسكرية خلال الغزو، صرح للإعلام، إن قيام لجنة التحقيق بعقد جلسات استماع سرية للشهود "سيغذي وبكل بساطة أجواء الشك والريبة المحيطة بحكومة براون حاليا"، وقال "كان من الممكن جعل بعض جلسات التحقيق علنية وإجراء جلسات الاستماع للمسائل المتعلقة بالمعلومات السرية وراء أبواب موصدة، كما أن الحكومة أعلنت أن تحقيق حرب العراق سيكون على غرار تحقيق حرب الفوكلاند، لكن ذلك جرى قبل 30 عاماً والعالم مختلف جداً الآن". ووضح مارشال الجو السير جون ولكر، الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات الدفاعية، إن السبب الوحيد لإجراء التحقيقات على نحو سري هو "حماية أعضاء الحكومة الحاليين والسابقين". وفي إشارة إلى الجنود البريطانيين الذين لقوا حتفهم خلال الحرب والبالغ عددهم 179 شخصاً قال ولكر "إن المؤسسة العسكرية تريد الكشف عن الحقائق بالنسبة لما جرى في العراق لأن هناك 179 سبباً لذلك" .وأكد أيضاً أن لديه أسئلة "مثيرة للقلق" حول كيفية استغلال المعلومات الاستخباراتية من جانب حكومة بلير السابقة وكذلك الأسباب التي كانت قد استخدمت كمبرر للغزو.
وصف الكاتب السياسي جوناثان ستيل، في مقال له في صحيفة الغارديان البريطانية، (16/6/2009) قرار إجراء تحقيق سري في حرب العراق بأنه فضيحة...وكتب: إن بريطانيا بحاجة ماسة لتعلم الدروس من أشد القرارات السياسة أهمية في العقد الماضي وأن تحقيقا ملتويا وسريا لن يفي بهذا الغرض. واستغرب الكاتب متسائلا كيف يمكن مناقشة قضايا حاسمة في السياسة العامة سرا فهذا التحقيق لا ينظر في قضايا مستقبلية أو حتى حالية وإنما يتفحص التاريخ.
من جهتها وسائل الإعلام سلطت الأضواء على القضية ونشرت التصريحات التي وضحت ما وراء القرار وعلقت أن تشكيل اللجنة وما يحيط بها يدخل في باب التمويه الرسمي. ومع كل ما عرف وأعلن تظل أسئلة كثيرة، من بينها، كيف ستكون العلاقة بين بريطانيا والعراق بعدها؟.