الاثنين، 8 يونيو 2009

سيرة كاظم فرهود: من السجون إلى رئاسة اتحاد الفلاحين


تكمل "سيرة .. وذكريات.. وود مقيم" للقائد الشيوعي كاظم فرهود الياسري مذكرات القادة الشيوعيين باقر إبراهيم وحسين سلطان وعدنان عباس، لأسباب كثيرة، من أبرزها عملهم المشترك في اغلب المجالات والسجون والفترات المتقاربة وتشابه التجربة السياسية والخبرات التي عاشوها وخصال إنسانية تمتعوا بها. وقد يكون في صفحات السيرة تواصلا لما انقطع في مذكرات القيادات الأخرى في اغلب المحطات التاريخية التي عاشتها الحركة الشيوعية في العراق وملامسة لأحداث مشتركة أو متفرقة أو مختلفة دون تفاصيلها.
الكتاب في 334 من القطع المتوسط وطباعة متعبة للقراءة في زمن الثورة التقنية في الطباعة وفي الزمن العراقي "الجديد" في النصف الثاني من عام 2008 واحتوى على تسعة أقسام ومقدمة وملحق صور بالأسود والأبيض لا تعرف ملامح أصحابها إلا لمن يعرف أشخاصها. وقد تفصح هذه الطبعة المتواضعة عن عنوان آخر لمشكلة السيرة والذكريات والحركة الشيوعية بعمومها في العراق وما مر عليها من تعقيدات الصراعات والكفاح الوطني الذي سجل التاريخ لها صفحات بطولية كثيرة ومآزق عديدة ونكسات في القيادات وطبيعتها ودورها في تلك الصفحات. وقد يلاحظ القارئ من البداية في المقدمة وفقرات الأقسام كثرة السجون والمعتقلات ومحاولات الهروب منها، وهي السمة المشتركة له مع غيره من تلك القيادات والكوادر الشيوعية التي أفنت شبابها فيها وفي فترات المد والجزر للحركة الوطنية العراقية. ( اغلبها تجارب فاشلة ولأسباب مضحكة، لم يستفد منها ولم يعتبر من سابقاتها، لا هو شخصيا ولا رفاقه كعادتهم)!.
بعد الصفحات الشيقة عن الطفولة والبدايات تبدأ السيرة الفعلية للعمل السياسي والفكري ومخاضات النضال الصعب الذي خاضه الشيوعيون العراقيون في الفترات التاريخية التي عاشها الكاتب وغيره، بعد الحرب العالمية الثانية وقبيل ثورة الرابع عشر من تموز 1958، ( يلفت الانتباه أن الياسري يسميها في اكثر من موضع من سيرته بالانقلاب، خلاف كل ما كتبه الشيوعيون العراقيون وتفاخروا به في أحداث الثورة التي هزت التاريخ في العالم العربي والمنطقة عموما!)، ومن ثم ما أعقبها من تطورات وتغيرات دراماتيكية بعد الصراعات في الحركة الوطنية ومسيرة الحزب وانشقاقاته وتأثيرها على مجمل حركة التحرر الوطني في العراق.
يحاول في المقدمة أن يعتذر من احتمالات الخطأ والنسيان عن الذاكرة التي وفرت له ما سجله على الورق من ولادته حتى آخر العمر كما سماه، وبيّن فيها رغبته في السنوات الأخيرة من عمره للكتابة عن سيرة حياته وشيء من الذكريات ومتعته في التسجيل والتوثيق ليضعها بين يدي أبنائه وأحفاده والمقربين له وليرضي نزعتهم للاطلاع والاستمتاع بلحظات من الفائدة. فهل ستكون خبرة السجون مفيدة أيضا؟ حيث يسهب في وصفها ويسجل انه دخلها منذ أواسط 1948 حتى أوائل عام 1955 ومرة ثانية منذ أواخر عام 1957 وحتى ثورة 14 تموز/ يوليو 1958 ومرة ثالثة منذ شباط/ فبراير 1966 وحتى تشرين الأول/ أكتوبر 1966. متنقلا بين سجون الحلة والكوت ونقرة السلمان وبعقوبة وموقف بغداد المركزي. ومن طريف هذه القصص يذكر في الصفحة 46 عن حياة الشيوعي في سجن الكوت نموذجا لحياتهم في بقية السجون وحسب ظروفها المتقلبة في اغلب الأحيان. فكانت موزعة ومنظمة بين النهوض صباحا لتأدية التمارين السويدية باعتبارها واجبا ملزما. وبعدها الانتظام في حلقات أو فرق للأكل وتأدية الخفارات مثل: تنظيف ردهات السجن، خفارة العمل في المطبخ، خفارة غسل الملابس الاعتيادية، والخفارات الدائمية الدورية لشغيلة الفرن والمخزن والصيدلية ومن ثم التعاون والمشاركة في بقية الواجبات والمستلزمات الأخرى. وهي واجبات يومية للسجناء الشيوعيين فضلا عن البرامج التثقيفية التي عرفوا بها، ومن بينها مكافحة الأمية وتعلم اللغات الأجنبية وغيرها. وهي في كل الأحوال رغم قساوتها تبقى مدارس يتذكرها السجناء بعد حين من غياب والتحاق بمشقات الكفاح اليومي والصراعات السياسية والتنظيمية. وتكاد تكون سمة غالبة لكل المذكرات التي صدرت والقصص المتداولة عنها بين العوائل الشيوعية. ومن وقائعها المفجعة مشاركته في الانشقاقات الحزبية وانقسام المنظمات داخل السجون وطبيعتها في العلاقات الاجتماعية وأمثالها.
ومن طريف ما ضمه الكتاب رده على كتاب "عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي" لمؤلفه عزيز سباهي والذي عد تاريخا موثقا ومزكا للحزب. وهذه قضية ملفتة للانتباه عن طريقة تأليف الكتاب وتوثيقه الحزبي لقيادي معروف فكيف يكون الأمر مع بقية الكوادر والوقائع والحقائق؟. فبعد اقتباس النص الوارد في الصفحات 103 – 113 يرد عليه بالنص التالي: أن السطور التي كتبها الأستاذ سباهي عن سيرتي الشخصية قد أوجدت في نفسي تداعيات محزنة أو فراغات موحشة، خاصة بيني وبين "عقود". وأشار إلى الهنات مصححا بنقاط ما ورد في النص. فلم يكن فلاحا مثلما ورد في النص ولا كذلك فراشا، ويراه تخبطا في التوصيف له شخصيا، ويتوقف عند نقطة الضوء الرئيسية التي تستحق المناقشة والتعليق اكثر من غيرها، (ص 160) وهي أن الأستاذ كتب ما يلي : "وقد وجه للحزب انتقادا شديدا لاختياره وهو لم يعد فلاحا كرئيس للهيئة المؤسسة للاتحاد...الخ". فيرد عليه بتفاصيل يعتبر ما ورد هجوما وعداءا صادرا عن الخصوم والأعداء وموقفا طبقيا مناوئا مهما كانت الذرائع والحجج التي تذرعوا بها. وكتب: إن النقد في ظلال معتمة وفي أجواء الانكسارات والهزائم كثيرا ما يؤدي إلى حسابات خاطئة ومضامين سطحية. فقد كان بالأحرى التركيز على المسالة الأعظم أهمية ألا وهي سياسة الاتحاد وتطبيقاته، وممارساته وعلاقته بالفلاحين، رغم قصر المدة في عمله التي لم تتجاوز الخمسة اشهر". (ص162). وواصل في السياق نفسه، انه بعد انتهاء عمله في الاتحاد العام للفلاحين عاد للعمل الحزبي في منطقة الفرات الأوسط وعمل في الأساس مع الفلاحين، ولم يكن طارئا أو دخيلا. وشعر أن كل المواصفات التي وضعها كتاب سباهي لا تتساوق مع واقع الحال له ومتناقضة مع الحقائق المعلومة عنه حزبيا وشعبيا.
شرح في الأقسام السبعة الأولى سيرته وملاحظاته وتنقلاته بين العمل الحزبي والسجون والسفر للدراسة وعلاقاته الحزبية ومواقفه من الانشقاقات والتحاقه بها وعودته منها ومن ثم تخليه عن العمل الحزبي ودخوله (في وادي غشيته ضروس) أي كما شرحه في واد مطره قليل، حين جمد نفسه عن العمل الحزبي تحت تأثير الشعور النفسي السلبي والمرارة!(ص4). (لماذا هذه الانشقاقات وما هي أسبابها وأين وصلت؟ مرّ كاظم فرهود الياسري عليها سريعا ومثلها قضايا مهمة وأساسية في تاريخ الحزب ومواقفه وقياداته). لكن عاد إلى العمل في الميدان الفلاحي بين عامي 2004 -2005 وتركه لينشر سيرته وذكرياته ويقيم وده في آخر عمره، بين عائلته وأحفاده وجماعته من المحاربين القدماء، كما أطلق عليهم في فصل ممتع، جمعه مع غيره من الأوفياء الصادقين في تذكر مناضلين مجهولين جادوا بأغلى ما عندهم في سبيل قناعاتهم وطموحاتهم في حزب وشعب ووطن حر سعيد.
خصص القسم الثامن من الكتاب للجمعيات الفلاحية والاتحاد العام ومسيرته ونشاطاته وتسجيله وما آل إليه في زمن الاحتلال ومناضليه. أما القسم التاسع فاهتم بمحاولات الهروب المتكررة من اغلب السجون التي دخلها في تلك الفترات. كما سجل صفحات أخرى عن بعض الأمهات الرائعات للمناضلين الشيوعيين ومشاركتهن في العمل السري والواجبات الحزبية في تلك الظروف الصعبة، وهي إشارات موفقة وحسن تذكر لأسماء لابد أن تستعيد وتنال حقها في سجلات التاريخ والمستقبل.
(سيرة وذكريات وود مقيم) صفحات سريعة لفترة طويلة ومسيرة صعبة لأيام نضال وكفاح وطني محتدم، أعطى السيد الياسري ما أوفته ذاكرته وسجل بعضها ولكن الحاجة تظل تلح على ضرورة البوح والشهادة والنقد الذاتي في تسجيل واستذكار كل الوقائع والحقائق التي مرت ودور الحزب وأعضائه فيها وفي تاريخ العراق الحديث.