الأربعاء، 13 مايو 2009

وثائق العار

الاثنين 11/5/2009
كشفت إدارة الرئيس الأمريكي باراك اوباما مؤخرا عن بعض وثائق سرية وصور متعلقة بممارسات مخزية ارتكبتها أجهزة الإدارة الأمريكية السابقة في المعتقلات والسجون الأمريكية خارج حدودها. كان الحديث عنها محظورا، إلا أن مناشدات قانونية لمنظمات حقوقية وقانونيين وإعلاميين مدافعين عن حقوق الإنسان تمكنت قانونيا من الضغط على الإدارة والرئيس الأمريكي للإفراج عنها. بشاعة محتوياتها تعكس معاني خطيرة وتدل على أن ما كان يقال عن هذه الفضائح والفظائع أقل مما هو عليه في الواقع والوقائع. وهي بعض وثائق وصور من سجلات مثيرة تبين سوء حكم الإدارة السابقة وتناقضاتها بين الشعارات التي ادعتها والممارسات التي قامت بها، كما أنها تشير إلى طبيعة السياسات التي كانت عليها تلك الإدارة ومواقفها الحقيقية من حقوق الإنسان. فالوثائق التي نشرت والتي ستنشر تباعا تفضح تلك الممارسات الرسمية المشينة، والتي تسترت عليها الإدارة ومسؤولوها بإصرار وقصد وعلم بها، وهي بابسط صورها خرق صريح للقانون والدستور الأمريكيين والقانون الدولي. ودون أدنى شك تتحمل إدارة بوش المسؤولية كاملة عنها، خاصة وان هذه الوثائق تدل على أدوار للرئيس بوش ونائبه ديك تشيني ودونالد رامسفيلد وكوندوليزا رايس ومساعديهم في إصدار المذكرات والموافقة على محتوياتها، كما أنها تدينهم في إطار مسؤولياتهم وضمن مواقعهم في القرارات التي سمحت بتلك الانتهاكات.
من بين المنظمات الناشطة، منظمة "الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية" التي طالبت بدعوى قضائية نشر الوثائق والصور، وحصلت على قرارات لصالح الإفراج عنها. وأوضح الخبير القانوني لها أمريت سينغ أن: "تلك الصور تعطي دليلا مرئيا على أن ما كان يمارسه الأمريكيون بحق الأسرى لم يكن عملا معزولا بل منتشرا وراء جدران أبو غريب". وأضاف شينغ أن نشر الصور: "سيسمح للرأي العام بأن يفهم انتشار أعمال التعذيب تلك التي تعرض لها الأسرى ومسؤولية كبار المسؤولين الذين أجازوا مثل تلك التصرفات". في الحقيقة تعري الوثائق الأساليب الوحشية التي سمحت السلطات القانونية الأمريكية والأجهزة الاستخبارية الأخرى القيام بها ومعاملة المحتجزين لديها. وهي بحد ذاتها فضيحة قانونية وأخلاقية وسياسية ينبغي التأكيد عليها وعدم تمريرها والتوقف عند تجلياتها، والاستفادة من ما كشفه بعض من صحا ضميره من المنفذين لها علنا في وسائل الإعلام.
لعبت اغلب وسائل الإعلام الأمريكية والغربية عموما دورا في الكشف والنشر، وثمنت قرار الرئيس الأمريكي اوباما بالموافقة على نشرها ورفع الغطاء عنها استجابة إلى الضغوط العديدة في هذا المجال. وبموجب هذا القرار تنشر لأول مرة صور التقطت أثناء جلسات استجواب خضع لها محتجزون في معتقلات أخرى غير سجن أبو غريب في العراق، وتضيف هذه الصور إلى الوثائق الأخرى التي كشفت قبلها أدلة وإثباتات محكمة، ترسم وصمة عار وفضيحة لمصداقية وزارة العدل الأمريكية ومؤسساتها الرسمية التي بررت أساليب الاستجواب القاسية وطبيعة المعاملات الوحشية التي تنتهك حقوق الإنسان في الاعتقال والتحقيقات مع المحتجزين.
ورغم تنويه وسائل الإعلام والقانونيين بمثل هذا القرار وفضح تلك الوثائق والصور إلا أن الاستثناءات التي أعقبتها فيما اتخذه الرئيس أوباما بنفسه لحماية رجال الاستخبارات والمنفذين لتلك الممارسات من أية ملاحقات قانونية على أساس انهم كانوا ينفذون الأوامر الصادرة إليهم ووفق المسموح به وتحت حماية قرارات وزارة العدل سببت خيبة أمل متصاعدة لاسيما لدى القانونيين وقادة منظمات حقوق الإنسان، والمطالبين بالمحاكمة، ولم يقبلوا وصف الرئيس الأمريكي لهذه الوثائق بأنها "فصل مظلم ومؤلم في التاريخ الأمريكي"، وسارعوا إلى المطالبة بإعادة النظر في هذا القرار وعدم حماية المسؤولين عن أكبر فضيحة أخلاقية وقانونية في التاريخ الأمريكي. وقد حصلت صحيفة الخليج الإماراتية (18/4/2009) وكاتبتها حنان البدري على نصوص تلك المستندات والوثائق، (راجع نصوصها في أعداد الجريدة للأيام 6- 9/5/2009) كما قام العديد من وسائل الإعلام الأخرى بإعادة النشر والتأكيد على محتوياتها مع الصور الفضيحة.
هذه الوثائق عرت جوانب من القضايا التي كانت تجري داخل أسوار المعتقلات الأمريكية، العلنية والسرية، وقدمت أدلة صارخة لتلك الممارسات اللاأخلاقية واللا إنسانية، كما أنها لم تكتف بما عرضته من تبريرات وأوامر بالتعذيب الوحشي لانتزاع اعترافات بالتهم الموجهة للمعتقلين، وإنما كانت تستهدف الوصول إلى أهداف سياسية أراد المسؤولون الأمريكيون منها تبريرا وذرائع لشن غزوهم وحروبهم على أفغانستان والعراق، وقد تكون تصريحات رامسفيلد عن "المقاتلين الأعداء"، وصمت رايس حين تولت منصب مستشارة الأمن القومي عن تلك الإجراءات، ومطالبات تشيني من المحققين في العراق للحصول على ما يوصل بعلاقات مع تنظيم القاعدة شكلا آخر من تلك الممارسات والإجراءات يضيف مسؤولية قانونية عليهم.
في كل الأحوال أن الصور والوثائق كافية وحدها للتعبير عن تلك الانتهاكات والممارسات التي يدينها القانون والدستور والأخلاق ولا حل آخر أمام الإدارة الأمريكية الجديدة التي وعدت بالتغيير إلا بمحاكمة المسؤولين عن هذه الجرائم والفظائع، فهل سنرى قريبا قرارا جريئا للرئيس اوباما بتشكيل محكمة ولجان تحقيق ووضع قادة الغزو والحروب والانتهاكات المخزية في قفص الاتهام؟!. هذه وثائق رسمية تكشف عار حقبة زمنية سوداء، فرضت صورها الكالحة على العالم. لقد أدينت بشدة حكومات كثيرة مارست اقل من تلك الفضائح ووصمت بالعار لما اقترفت ضد الشعوب والأبرياء، وها هي الدولة التي استفردت بالنظام الدولي، ادعاء ونموذجا جديدا للقرن الواحد والعشرين، تثبت علنا ورسميا بأنها لا تختلف عن تلك الدول المدانة في مثل هذه التصرفات والفظائع..