الخميس، 22 يناير 2009

غزة.. دم الشعب حَرّك الشوارع

الخميس 15/1/2009
لم يتوقف شلال الدم في غزة. ولا يتجمد ارتفاع عدد الشهداء والجرحى والنازحين والمهجرين. لم تعد المستشفيات كافية أو متسعة لما يصلها على ناقلات سيارات الإسعاف وغيرها، غير من طمرته أنقاض البيوت المدمرة، وفي الطرقات التي حفرتها الدبابات وقنابل المدافع والمروحيات وصواريخ الطائرات والأسلحة الأخرى، الفسفورية والجديدة التي تجرب على أجساد أبناء غزة.
غزة تعرف أن دم شعبها المقاوم والعنيد في حبه للحرية والاستقلال والكرامة الإنسانية، مثل كل الشعوب الحيوية، هو المطلوب، فهي بقدر ما تبني فيه صمودها وقدرتها على التحمل والوقوف بقدر ما تقدمه موقفا لها بوجه القتلة وترسمه إشارة فوق منائر مساجدها ومدارسها ومساكنها التي هدتها آخر أنواع وذخائر أسلحة البنتاغون وأموال اللوبي الصهيوني في العالم بما فيه من الناطقين بلغتها والمتفرجين على صرخات أطفالها ونسائها. غزة لن تنس، وتتذكر الوقائع كلها، من أولى دفعات صواريخ الخديعة التي قصفت ألف هدف فيها إلى سحابات مطر القنابل الفسفورية التي تتفنن بها طائرات الأف 16 والاباتشي وغيرها في سمائها صباح مساء. غزة تتذكر كيف أغلقت عليها الأبواب من جميع الجهات وسدت بوجهها السماوات والبحر والصحراء؟. غزة مدهشة، ذاكرة حادة، تدرك الثمن وتعرف أنها ليست وحدها من يدفعه، وإذا كانت دماؤها ناطقة حتى بأضعف الأيمان فهي ترمي مسؤولية دمها على وجوه من شارك في سفكه وعلى أيدي من صب زيته على نيران حرقها وحجب ماله عنها ومنع حتى الأطباء من تحمل مسؤولياتهم وقسمهم في خدمة الإنسانية، وسخر من راكبي القوارب المحملة بأرواحهم وبعض المساعدات الطبية والهبات الرمزية وكاميرات إعلام الواقع. غزة تراقب الشوارع التي تحركت في هذا العالم المسكون بالعجائب والتناقضات حيث يعلو فيها الهتاف موحدا: غزة حرة، غزة صمود، غزة كرامة، غزة حرية، غزة انتصار، والحرية لفلسطين والصمود للمقاومة، أوقفوا جرائم الحرب والعدوان. حركات الشوارع كلها بلغاتها وألوانها واختلاف ملابسها وعاداتها تسمي القتلة بأسمائهم وصورهم وتبصق عليهم وترميهم بأحذية قديمة أو تحرق صورهم وإعلامهم لتدوسها أقدامهم. شوارع المعمورة، من أقصى الشرق إلى الغرب، من الشمال إلى الجنوب، عابرة للقارات والبلدان والقوميات والأديان تنتفض وكأنها جسد واحد، وتتحرق لما يصيب غزة. بينما سلطات عواصم ذوي قرباها، تراقب راية بيضاء تخرج منها وتتفرج على أشلاء أطفالها وبكاء أمهاتهم، وتقمع تظاهرات شوارعها وتعتقل زعماءها وتحيط مسيراتها بأعداد من شرطتها وعسكرها بأكثر من أعداد المتظاهرين. تظاهرات غضب واعتصامات ألم ومشاركة لمعاناة ومأساة أهل غزة. هكذا وصفت وهكذا هي أيضا، ولكنها ليست من اجل أن تتظاهر أو تعتصم أو تصدر بيانا أو تحتج بطريقتها وبما يناسبها ويتاح لها، إنها صرخة إنسانية عامة ومحددة ولها هدفها ومطلبها، وهي إذ تعبر عنه في شعاراتها ولافتاتها وكلماتها تنتظر أن تجد لها تعبيره السياسي والقانوني والأخلاقي، وتمنع المجزرة وتطفئ المحرقة وتحاكم المجرمين والمشاركين معهم بكل إشكالهم. الصورة واضحة وإعلام الواقع الذي ينقل الحدث بلحظته ومكانه، فضائيا والشبكة العنكبوتية، جعل الجميع على المحك.. والتاريخ يشهد ويسجل ويعلم.
تصب على غزة أطنان الأسلحة الفتاكة، من البر والجو والبحر، ليلا ونهارا ودون توقف منذ اندلعت الحرب عليها في 27 من الشهر الأخير من العام المنصرم .. تعرف المخططات وتدرك معانيها ولهذا تبذل ما تستطيع لتحمي نفسها وقضيتها ومستقبلها. وتعي أسلحة العدو، العسكرية والاقتصادية والثقافية وتعلم أن من أخطرها هو في شراء ذمم من يتحدثون بلغتها ودينها.. وهؤلاء وفي هذه الظروف الصعبة يوظفون ما لديهم من إمكانات في تشويه الصورة وفي خلط الأوراق، كما يدعون، فيوجهون صراعهم على جهة واحدة في هذه المأساة، ولا يتوقفون عند اللوم والشجب وصولا إلى الإدانة المباشرة أو غير المباشرة لحركة المقاومة الإسلامية- حماس ويجارون المتآمرين مع العدو الصهيوني في حربه وعدوانه وإعلامه على الشعب الفلسطيني وروح المقاومة الشعبية ضد الاحتلال والإرهاب والجدران والحصار والأسر والقتل العشوائي المستمر منذ زرع الكيان قاعدة استراتيجية في الوطن العربي. وهؤلاء الكتبة والباحثون والإعلاميون وحملة الشهادات، كما يعرفون أسماءهم، لا يهمهم من الحرب غير تحليل ونقد الضحية في هذه الكارثة، أما أسبابها ومسببيها من المحتلين والداعمين لهم من الأمريكان إلى الاتحاد الأوروبي فلم يخطر ببالهم حتى ذكرهم من باب الموضوعية في كتاباتهم ودراساتهم، وهنا دعوة إلى تسجيل أسماء هؤلاء في سجلات المتواطئين والمشاركين في الحرب والعدوان، ولابد من صف كتاباتهم إلى مسؤوليهم ومساهماتهم في شحن آلة الحرب والعدوان وقتل الشعب والمقاومة والأمل في التحرر والديمقراطية والتنمية الإنسانية، وملاحقتهم قانونيا وتعريتهم أخلاقيا. كتابات مثل هذه لا تختلف عن قذائف قوات الاحتلال الفتاكة التي تسفر عن حروق شديدة وتهتك في الأنسجة الدموية والأعصاب وتهشم العظام وتفحم الأنسجة المقطعة بفعل شظايا القذائف، تمارس، هذه الكتابات، دورها في تخريب الوعي اليومي وتشويه الفكر السياسي العربي. وهي في الأخير تشكل خطرا إضافيا ودعما مباشرا للعدوان والحرب على الشعب والمقاومة الفلسطينية وكل ساحات المقاومة الوطنية ضد الهجمة الإمبريالية الصهيونية، ومخططاتها الإجرامية، التي تستفرد كل فترة بموقع مناضل وساحة مقاومة لتنجز أهدافها المعروفة في الهيمنة والنهب والاستغلال وتحطيم الارادات الوطنية والخيارات الشعبية.
رغم كل المعاناة والآلام تظل غزة بما تقدم كل يوم يمر عليها محركا سياسيا وأخلاقيا للشوارع، ولن يضيع دمها أبدا.