الأحد، 21 ديسمبر 2008

حذاء منتظر وصمت البحر

الاربعاء 17/12/2008
شغل حذاء الصحفي العراقي الشاب منتظر الزيدي الرأي العام ووسائل الإعلام المختلفة، وفتح طرقا وأساليب أمام الإبداع الإعلامي والسياسي وابتكارات متنوعة، من ضمنها تخيلات رسامي الكارتون والكاريكاتير للأطفال والكبار على السواء. وحوّل الرمية بفردتي الحذاء على راس جورج بوش إلى تعبير اكبر من حجم كف حامله وابلغ من صورة الحدث الآني. باختيار لحظة زمنية حاسمة اختصرت إرادة شاب وغضب شعب. أدخلت منتظر وحذاءه التاريخ وأخرجت رئيس الولايات المتحدة الأمريكية جورج بوش من حلبة التاريخ التي أراد أن يعلتيها منتصرا ومودعا البيت الأبيض بتوقيع صكوك غلبته وفوزه محتفلا، فجاءته رشقات الحذاء بديلا وخاتمة ترافقه وتشجع مثلها له في حياته وتسجل عليه في تاريخه لما بعده. لقطة أحذية ترمى على وجه رئيس اكبر دولة إمبراطورية احتلت البلاد ونشرت البلاء والخراب والدمار بين العباد، كانت بكل معانيها تعويضا عن صرخات اليتامى الذين قتلت أسلحة قوات الاحتلال أهاليهم، وبكاء الأرامل والمهجرين والمشردين عنوة وبأسلحة الاحتلال، آهات ضحايا التعذيب في المعتقلات والسجون الأمريكية، ورمزها أبو غريب وما تلاه، كلها وغيرها ستظل ترن في آذان بوش وأركان إدارته وحلفائه، التي أريد أن تنسى أو تبعد عن احتفالات ومهرجانات الاستقبال الرسمي، فأعادها إلى الواجهة حذاء منتظر. والوثائق التي تدين الاحتلال والعدوان والقتل والتعذيب قبل ضربات الحذاء تتكاثر وتضيف لقيمة ورمز الحذاء البسيط الطبيعي معاني أخرى ودلالات تتجاوز تلك اللحظة وما تلاها زمنيا وواقعيا.
غطى حذاء منتظر المشهد السياسي في العراق وأعطاه بعده الحقيقي، فلا قيمة بعده لحفلات التوقيع والتصفيق وتقبيل السيد الغازي وتزيين احتفالات تسليم وشاح البطولة الرسمي للإمبراطور العاري ووقوف أعوانه أمامه صاغرين وغيرهم ممن قدم له الولاء والطاعة على حساب كل الدماء والخراب والنهب والخضوع والاستسلام، لا قيمة لها بعد الحذاء وقبله أيضا، إلا أن الحذاء كان الصورة الأبرز والوسام الفعلي والتوقيع الأساسي، بكل معانيه وتداعياته وتاريخيته. واستلم الصحفي الشاب به، اجل .. بقرار الإقدام على استخدامه وسيلة في مقاضاة المجرم الرئيسي، وسام البطولة الشعبية والشهامة الوطنية، وسجل فخرا له ولجيله ولحركة سياسية رافضة ومناوئة للاحتلال ولمن ارتضاه عنوانا لتحريره. لا يمكن أن يكون مجرمو الاحتلال محررين وأبطالا، والرد عليهم، كما أثبتت تجارب التاريخ، بالمقاومة بكل أشكالها وأساليبها، من أبسطها وحتى أرقاها. وكل ما يقوم به أبناء الشعب يتراكم ويردع المدعين والمرتزقة وأزلام الاحتلال.
لقد احتفل الفرنسيون في أيام مقاومتهم للاحتلال النازي لبلادهم بقصة اسمها "صمت البحر" تتحدث عن عائلة سكن في بيتها ضابط ألماني، ولم تستطع أن تطرده أو ترده، ولكنها حاربته بصمتها طيلة وجوده ورفضها أن تكلمه أو ترد على كلامه معها حتى آخر وداع له حين ترك بيتها، وبصمت هذه العائلة المكونة من شيخ وابنته الشابة أعتبر العمل الأدبي إبداع مقاومة وطنية. ولماذا لا .. فقصص مشابهة كثيرة، عن أغاني المغنيات والراقصات في نوادي ومعسكرات قوات الاحتلال ونقل أخبارها وخرائط مواقعها إلى المقاومة الوطنية لتقوم بواجبها بعد ذلك، وكذلك مساهمات أناس بسطاء يعملون في مؤسسات الاحتلال، لاسيما في المطابخ وتنظيف المعسكرات وتوفير الخدمات الاجتماعية أو الإدارية الأخرى، في توفير قاعدة معلومات عن العدو، والإسهام في خدمة المقاومة الوطنية، وحتى تنفيذ أعمال مقاومة فعالة ضد قوات الاحتلال، كلها أعمال مشروعة ومطلوبة ضد الاحتلال. أما سجل التاريخ نشاطات مناضلات ومناضلين في معسكرات الاحتلال الأجنبي وكيف كرمت في تاريخ المقاومة الشعبية، ومنها رش إبر خياطة مخلوطة بسم قاتل في ملاعب الجنود الأمريكان، أو وضع السم في مواد غذائية وسوائل توزع أو محفوظة في مخازن قوات الاحتلال وغيرها من الوسائل المشابهة لذلك؟...
واليوم ينبغي قراءة الأحداث سوية مع حذاء منتظر وبنفس المنظار.. ومقارنتها مع جرائم الاحتلال وقياداته، لاسيما الذين اعترفوا بشهادات مكتوبة وبألسنتهم في الفضائيات العالمية، باقتراف جرائم حرب وإبادة جماعية وضد الإنسانية. اعترف منتظر بفعلته واصر عليها وهو لم يعرف بعد ماذا احدث حذاءه وكيف صار رمزا ومحفزا وإشارة تحد وصفعة مدوية ضد الاحتلال ورموزه وازلامه؟.
صمت حذاء منتظر فضح كل الكلام، وفردة حذائه تعادل آلاف الكلمات كما كتب صحفي بريطاني في مواقع إلكترونية أمريكية، وسيدرس فعله ويشهد له في صفحات التاريخ والمؤتمرات الصحفية وتظاهرات الشوارع والمدن العراقية والعربية، وحتى خارج الوطن العربي، فكما شوهد الرئيس الفنزويلي اليساري ممتلئا سخرية من الإمبراطور الأمريكي، وإشادته بشجاعة الصحفي العراقي. وكما تحولت صورة الحذاء إلى مانشيت رئيسي في اغلب وسائل الإعلام العالمية ووكالات الأخبار لأيام متتالية، ستظل الصورة التلفزيونية والفيديو الإلكتروني والهاتف الجوال للفعل البطولي للصحفي العراقي منتظر الزيدي شهادة تاريخية، وعنوان مرحلة جديدة في تاريخ العراق والمقاومة الوطنية، وردا واضحا معبرا عن إرادة شعبية واسعة عكستها المظاهرات الجماهيرية الكبيرة، وإعادة الأسلوب نفسه مع قوات الاحتلال. كما نقل التضامن الواسع عربيا ودوليا الموقف السياسي من سياسات الإمبراطورية الأمريكية وجورج بوش بالذات، كرمز لها وللجرائم الكبرى التي اقترفت باسمها.
مبادرة منتظر الزيدي فعل شجاع وجريء، وعمل من أعمال الرفض الشعبي للاحتلال الأمريكي وممارساته الوحشية، وسلوك وطني مناوئ لكل ما يعنيه جورج بوش وإدارته، وإنعكاس كراهية محلية وعالمية لسياسات الإمبراطورية الأمريكية، ويكفيه أنه أحدث كل هذا الذي يحصل اليوم في الوعي والإرادة والعزيمة والغضب العارم.