الثلاثاء، 16 ديسمبر 2008

تركة جورج بوش في الوطن العربي

الجمعة 11/12/2008
حكَمَ الشعب الأمريكي على إدارة جورج بوش وسنواتها العجاف سياسيا وتاريخيا، ولكن تركتها ثقيلة داخل الولايات المتحدة وخارجها، وستستمر تداعياتها وآثارها. لاسيما الكساد الاقتصادي العالمي الذي تسببت في صناعته وعولمته. وإذ ترحل أسوأ إدارة في تاريخ بلادها، دون أسف عليها، يسعى الرئيس بوش كحمل وديع إلى تبيض صفحته، مذكرا بسنته الأولى قبل أحداث أيلول/ سبتمبر الأمريكية. معلنا في جلسات اعتراف على شاشات التلفزة انه قاد الحروب بمعلومات خاطئة من أجهزة مخابراته التي قدم لرئيسها أعلى وسام أمريكي لخدماته في حقبة حكمه الفاشية. ورغم ذلك والاعترافات سيدة الأدلة إلا أنها تبقى صفحة من سجل الحقيقة، وسطورا من أوراق القضية، إذ انه حتى في هذه الاعترافات المتأخرة مخادع، يوجهها رسائل إلى شعبه وربما الأوربيين، ويتنكر أو يتفاخر بما قام به في الوطن العربي. الذي ترك فيه ما يشيب له الولدان وتلقى منه ما سيذكره طيلة حياته. ومع ذلك فلابد من قراءة التفاصيل، وفيما قدمته بعض الحكومات العربية لهذه الإدارة المدبرة وساعدتها في تنفيذ جرائمها، لتعين الشعب الأمريكي على محاكمتها قانونيا وإنسانيا أيضا، وتعوّض بعض ما وقع على الشعب العربي منها. لقد حكم التاريخ على الإدارة بأسوأ رئيس وحقبة زمنية، وقرر الرأي العام الذي تم خداعه إبدالها بمواصفات تاريخية، ويبقى القانون والعدالة والحق العام لعوائل آلاف القتلى والجرحى والمتضررين من الحروب والغزو والكساد الاقتصادي في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها قائما، وكذلك دور من أثقلت عليه التركة من الشعوب ومنها العربية.
تتحمل الإدارة الأمريكية مسؤولية ما حصل ويحدث في الوطن العربي من كوارث بسبب الاستهداف والمخططات الإمبراطورية. لقد دمرت دولتين، بعد إصرارها على استيطان واحتلال فلسطين، هما العراق ولبنان، وأشعلت الحروب في السودان والصومال، وزرعت بذور الدمار داخل اكثر من بلد عربي، ودفعت إلى تدهور الأوضاع فيها. وإذا كانت البداية من فلسطين، تواصلا لما يعانيه شعبها منذ نكبته واستمرارا في ظل إدارة بوش، فكل ما قدمت له من وعود ومؤتمرات كلام وشعارات لتقطيع الوقت لا تتوازى مع دعمها المحتل الصهيوني لتحويل الوطن إلى سجن وجحيم لا يطاق، مرسوما بالجدران والحواجز وحافلا بالقمع والقتل والتعذيب والحصارات، وترحل ولم تحقق أي وعد قطعته، بل أججت الصراعات داخله وتركتها تشتعل. مواصلة منهجها في الغزو والعدوان على الشعب العراقي، والعمل على تدميره طيلة تلك السنوات العجاف، قتلا وتشريدا ونهبا لثرواته وتخريبا لمنشآته وجامعاته ومتاحفه ومكتباته وآثاره. ولم تسلم من سياسات ومخططات الإدارة الأميركية مصائر المتعاونين معها من العراقيين، فقد نشرت وسائل الإعلام رفض حكومات الاحتلال منح المترجمين حق الإقامة في بلدانها. وما زالت فضيحة سجن أبو غريب شاخصة كنموذج للاحتلال الأمريكي وتعامل قواته مع السكان الآمنين في الأراضي المحتلة من قبلها. ويظل ما حصل فيه مؤشرا كبيرا لسلوك وأساليب عمل القوات المحتلة وممارساتها الفعلية المتناقضة مع كل ما تدعيه وسائل دعايتها وتزيينها الإعلامي.
شواهد الحرب السافرة على لبنان عام 2006 ما زالت مثالا آخر على تركة بوش. فقد ألزمت إدارته قاعدتها الاستراتيجية بتنفيذ مخططاتها في تدمير لبنان وشعبه، والسعي إلى تمزيقه وتحطيم إرادته. وكادت الفوضى البناءة التي أرادتها كوندوليزا رايس له منطلقا أن تحقق لها ذلك، ورغم فشلها إلا أن تداعياتها لما تزل تشرأب بين حين وآخر، والشروخ التي أحدثتها لم تندمل بعد، وعناصرها متخفية من هول الصدمة التي وقعت على رأسها من صمود وقوة المقاومة وردها المحكم على العدوان عليها، والدروس التاريخية التي قدمتها وأفشلت مخططات العدوان، رغم كل الأضرار.
يطول الحديث عن مخططات الفتنة الطائفية والدينية والعرقية في اكثر من بلد عربي، في صورتها الكبيرة في لبنان والعراق، وانتشارها المتنقل في مصر والسعودية والسودان واليمن وغيرها من البلدان العربية. والأبرز في مشاريع التقسيم والتجزيء والتفتيت ما كاد يحصل في العراق ولبنان والسودان مثلا، وما يراد له أن يحدث في اكثر من بلد عربي، وليس آخرها تقسيم الحكومات في الوطن العربي إلى دول أو حكومات معتدلة وأخرى "شريرة"، وتغيير جوهر صراعها وقضيتها المركزية إلى البحث عن أعداء جدد وتوجهات معاكسة للمصالح العربية وتعميق في التفرقة وصناعة الأعداء من الجيران والأصدقاء والحلفاء الذين يقاتلون بأساليبهم العدوان والحروب الأمريكية وحلفائها، ومحاولات محاصرتها وعزلها والتضييق على الارادات الشعبية والمقاومة فيها.
كذلك السودان ومحنة دارفور، ومأساة الصومال وشعبه، من ويلات التقسيم والتفتيت والتدمير الشامل، تختصر شر السياسات الأمريكية بشكل أو بآخر على الوطن العربي. فلكل بلد معاناته، وإشكاليات أوضاعه، ومن بينها التجزئة له والضغوط الغربية على تعميقها وزرع الشقاق، ومنع أهله من أية محاولة للإصلاح والتغيير الوطني والحكم الرشيد والتنمية المستدامة التي تخدم المصالح المشتركة وتبني الطاقات الموحدة.
من مشاريعها الأخيرة، القديمة الجديدة، القرصنة لتوسيع الهيمنة وإعادة تقسيم الوطن العربي والسيطرة على أطرافه، وتلوين المآسي فيه، بعد أن مارست سياسات الغزو والاحتلال على الأرض، واحتكار الفضاء بالأقمار الصناعية والطائرات والصواريخ عابرة القارات والتقنية الإلكترونية لتنتقل إلى البحار والمحيطات والقنوات المائية وغيرها. لقد نشطت إدارة جورج بوش في فرض هيمنتها وخطط غزوها وكادت لولا مقاومة الشعوب لها وردها الوطني في إخفاق مشاريعها ودفعها إلى البحث عن مخارج تسلمها للرئيس المنتخب، تاركة اسمها مقرونا بالهزيمة وكوارث التركة الثقيلة.