فهد والحزب الشيوعي العراقي ... إعادة التأسيس وتعزيز الحركة الوطنية
يتفق اغلب الباحثين في تاريخ الحركة الوطنية والعمالية والشيوعية في العراق على مكانة كبيرة لـ(فهد) في إعادة تأسيس الحزب الشيوعي العراقي ودوره في تقوية تنظيمه وتعزيز النضال وتطوير الكفاح الوطني والطبقي والسياسي. وقد يكون الاطلاع على سيرته الشخصية
يتفق اغلب الباحثين في تاريخ الحركة الوطنية والعمالية والشيوعية في العراق على مكانة كبيرة لـ(فهد) في إعادة تأسيس الحزب الشيوعي العراقي ودوره في تقوية تنظيمه وتعزيز النضال وتطوير الكفاح الوطني والطبقي والسياسي. وقد يكون الاطلاع على سيرته الشخصية
(1941- 1949) من بدايات نشاطه إلى حكم الإعدام الذي صدر عليه ونفذ في ساحة عامة في بغداد شاهدا ودليلا على أهمية ما كان عليه وقام به أو ما بذره وزرعه ونماه في العراق. فمن هو فهد؟، وأين ترعرع؟، وكيف اسهم في إعادة التأسيس للحزب الشيوعي ودوره في تاريخ العراق السياسي المعاصر؟.
قبل الدخول في الرد على هذه الأسئلة وغيرها لابد من الإشارة إلى أن كتبا عديدة صدرت عن تاريخ الحزب وعن فهد بالذات، من بينها ما كتبته المناضلة الشيوعية العراقية الدكتورة سعاد خيري وتاريخ الحزب الشيوعي بالتعاون مع زوجها القائد الشيوعي زكي خيري أيضا، وكذلك ما نشره الحزب عنه، مثل: كتابات الرفيق فهد من إعداد وإصدار فخري كريم وتقديم زكي خيري، وكتاب عزيز سباهي في ثلاثة أجزاء باسم عقود من تاريخ الحزب الشيوعي وتقديم عبد الرزاق الصافي، فضلا عن العديد من الكتب العامة مثل الجزء الخاص بالحزب من دراسة الباحث الأمريكي- العربي الأصل حنا بطاطو عن العراق، (ترجمت إلى العربية ونشرت في ثلاثة كتب) وكتاب عن فهد والحركة الوطنية لكاظم حبيب وزهدي الداوودي، وكتاب صفحات من تاريخ العراق السياسي الحديث- الحركات الماركسية لصلاح الخرسان، والكتب التي سميت بموسوعات عن الحزب الشيوعي العراقي أصدرتها دوائر الأمن العراقية وغيرها من الكتب المشابهة بلغات أجنبية ولم تترجم إلى العربية من باحثين وكتاب سياسيين في البلدان الاشتراكية سابقا، ومن ضمنها كتاب صدر بالإنجليزية مؤخرا عن الحزب الشيوعي العراقي لطارق إسماعيل، وآخر ما صدر عن فهد والحزب كتاب سنتناوله في هذا المقال، بعنوان "الحزب الشيوعي العراقي بقيادة فهد"، لعضو مخضرم في الحزب واكب حياة فهد وعاش معه فترات مختلفة، وهو المحامي سالم عبيد النعمان، أصدره عن دار المدى ببغداد في 328 صفحة من الحجم الكبير، متضمنا ثلاثة أبواب في سبعة عشر فصلا وملاحق احتوت رسائل فهد إلى قيادة الحزب من سجنه. ومن خلال اعتزازه بخبرته وتجربته وصلته بفهد أعاد في كتابه قارئه إلى الأربعينات من القرن الماضي، ليطل من خلال نظرة لا يقول عنها أنها متكاملة وربما يكون شطر منها بمنزلة شهادة لشخص عمل فترة من حياته المبكرة في صفوف الحزب الشيوعي في الأربعينات من القرن الماضي تحت قيادة فهد وعلى مقربة منه حتى لحظة اختطافه من السجن. (ص 292) أو استرجاع إلى الإرهاصات والبدايات التي فجرها تأسيس الحزب الشيوعي وقيادة فهد وتطورات عمله وتأثيره في تلك الفترة التي كانت عهد تحول وانعطاف في مسار الحركة الوطنية وأساليب كفاحها ضد الاستعمار البريطاني للعراق والرجعية المحلية التابعة، وتسجيل قدراته المتعددة في بناء الحزب الشيوعي والاستفادة من التغيرات السياسية الدولية والإقليمية وانعكاساتها على الحركة السياسية في العراق.
في المقدمة يكتب المؤلف انه حرص على تسجيل وقائع مسيرة الحزب متسلسلة مع زمن حدوثها، علما بأنه لا يدعي الإلمام بها تماما، ويضيف انه كتب ما شاهده وما أحاط به بأمانة وصدق، مقيما مأثرة فهد الكبرى التي تضاف إلى مآثره الجمة في اكتمال بناء الحزب من خلال وضع أسس البناء ووثائق العمل ليكون الحزب صرحا عظيما اكتمل بناؤه بقيادته وليكون له دوره الكبير في الحركة الوطنية. (ص 8).
فهد اسم حركي اختاره يوسف سلمان يوسف، الذي ولد في بغداد عام 1901 وانتقل مع والده إلى البصرة والناصرية، ولما لم تساعد حالة والده المالية على إكمال دراسته المتوسطة انخرط في صفوف الطبقة العاملة. ويسأل المؤلف عن بواكير تأثره ووعيه ويرد عليها: ابتداء كان يوسف سلمان واعيا لواقع شعبه المحتل، وهو كأقرانه مملوء كرها للمستعمر الذي احتل البلاد قهرا، ثم انه كأي مثقف شغوف بالمطالعة وتتبع الأحداث، كان على علم بثورة أكتوبر الاشتراكية وبدورها في فضح خطط المستعمرين، وعاصر ثورة العشرين وهو شاب وعمل على تأييدها. وعن بداياته الفكرية تأثره بلقاءاته مع رجال الفكر التقدميين وبقيادات عمالية وبشيوعيين خاصة من الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي كان أول حزب شيوعي تشكل في البلاد العربية. أما متى بدأت الخلايا الشيوعية في العراق فيرى المؤلف صعوبة معرفة تاريخ تأليفها، ويكتب عنها في الغالب أنها ظهرت في أواخر العشرينات من القرن المنصرم، ربما عام 1927 أو 1928 لقد كانت وليدة أسفار يوسف سلمان الأولى وهي في كل الأحوال تسبق ظهور نادي الشباب في البصرة أو جمعية الأحرار التي كانت من بنات أفكار يوسف والنشطاء المثقفين من زملائه سنتي 1928-1929، ويظن النعمان أن الخلايا الشيوعية مع جمعية الأحرار كانتا أولى البذور المثمرة للحركة الشيوعية في العراق. وهنا يحاول المؤلف تجنب البحث في الإرهاصات الأخرى التي نمت في المدن الأخرى كبغداد وجماعات أصدرت صحفا ونشرت كتبا عن الاشتراكية والنهضة الفكرية التقدمية في العراق، كجماعة (الصحيفة) مثلا وغيرها، وهو ما حاول قوله في البداية من انه يسجل ما يعرفه أو يريده، مخلا في هذا الجانب بالموضوعية التوثيقية وأمانة التسجيل التاريخية لشخصيات وتجمعات لعبت أدوارا هي الأخرى مع الحزب وفهد في وضع اللبنات الأولى أو البذور وفي تعزيز الحركة الوطنية والفكرية والسياسية في العراق. وقد يشفع لنفسه هنا انه اختار سياق بحثه حصرا عن حياة يوسف سلمان كما يبدو أو رغب به شخصيا لعوامل الإعجاب ورد الجميل لشخصية تاريخية جذابة وبارزة. وزيادة على هذه الملاحظة هناك مواقف مسبقة متناثرة لا تفيد في موضوعية الكتاب وتؤثر في جوانب المصداقية والحيادية في التسجيل والنشر المعاصر لصفحات التاريخ. وفي تعريف المؤلف للنشاطات الأولى ليوسف سلمان في البصرة يقرنها بوثيقة الأممية الثالثة (الكومنترن) إلى الشعوب العربية ودعوتها إلى التحرر والنضال ضد المستعمرين الذين قطعوا أوصال الجسد العربي الحي، حيث أن "مجمل نظام السيطرة الإمبريالية على الشعوب العربية لا يستند إلى استعبادها المباشر بل والى تقطيع أوصالها بصورة اعتباطية. فالتجزئة هنا أساس من أساسيات السيطرة الإمبريالية التي أقيمت ويحافظ عليها بالعنف الإمبريالي والتي تضعف الجماهير بصورة مصطنعة في نضالها ضد النير الأجنبي ومن اجل الاستقلال والوحدة الوطنية". ودعا الكومنترن إلى خوض النضال من اجل الاستقلال الوطني والوحدة القومية على النطاق العربي.
ويبدأ المؤلف في تبيان انتماءات يوسف سلمان إلى الحزب الوطني العراقي ( بزعامة الشخصية الوطنية التاريخية جعفر أبو التمن) والعمل الصحفي وسفراته ولقاءاته التي ساعدته على تنمية وعيه الوطني والإنساني وكرهه للاستعمار ومن ثم انطلاقه العملي في ضرورة أن يكون للطبقة العاملة حزبها الممثل لتطلعاتها وأهدافها. فكانت باكورة الخطوات الأولى الممهدة لقيام حزب شيوعي أقدامه على رفع مستوى التنظيم الخلوي البدائي إلى مستوى جديد والى إصدار أول بيان شيوعي موجه إلى الطبقة العاملة يدعوها إلى تفهم أوضاعها ورفع وعيها الطبقي وإظهار كيانها السياسي. وكان ذلك في 13 كانون أول/ ديسمبر 1932 حيث اصدر أول بيان يحمل شعار " يا عمال العالم اتحدوا" ورسم المنجل والمطرقة وقد وزع في شوارع مدينة الناصرية بتوقيع عامل شيوعي. وتمت محاكمة يوسف سلمان بتهمة تأسيس تنظيم شيوعي وترويج الدعاية الشيوعية في العراق وبعد مضايقات الشرطة له غادر الناصرية عائدا إلى بغداد، العاصمة ليواصل جهوده منها. حيث تنشط فيها تجمعات وأحزاب وطنية وتقدمية تعمل هي الأخرى تعبيرا عن مصالح فئاتها وقياداتها.
لجنة مكافحة الاستعمار والاستثمار
في جو بغداد النشط سياسيا وفكريا وجد يوسف سلمان نفسه وسط مجموعة أخرى أيضا من المتحمسين للعمل السياسي والكارهين للاستعمار والمعجبين بثورة أكتوبر الاشتراكية والمتأثرين بعصبة أو لجنة "مكافحة الإمبريالية" (التي ساند تأسيسها الكومنترن في 10 شباط/ فبراير 1928 ومقرها في بروكسل)، وأثنت المجموعة على بيانه وتوقيعه كعامل شيوعي فأسرعت معه إلى تأليف "لجنة مكافحة الاستعمار والاستثمار" بهدف تحرير العراق من النفوذ الاستعماري وتحقيق الاستقلال والسيادة الوطنية وتامين الرفاه الاقتصادي والاجتماعي للشعب العراقي وذلك بتبني مبادئ الاشتراكية العلمية وأساليبها في الكفاح لتحقيق المبادئ التي رسمتها اللجنة. وهنا يتساءل المؤلف مع غيره من الباحثين عن موعد تأسيسها وتحولها ومن هم المؤسسون وما هو ومن هم الذين حضّروا لها، ولماذا يجري الاحتفال بيوم 31 آذار/ مارس 1934 يوما لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي وغيرها من الأسئلة التي لم تحصل على ما يوثق الأجوبة عليها. والراجح أن التاريخ هذا تم باختيار مجهول وجرت العادة عليه دون تدقيق كبير، لاسيما وأنه لا يشكل خلافا كبيرا في المواعيد، حيث هناك اكثر من رأي يجمع على العام نفسه، إضافة إلى تحوله إلى جزء من التاريخ السياسي للحزب. ويروي المؤلف عن لقائه بعبد الفتاح إبراهيم، أحد ابرز الناشطين الماركسيين والسياسيين الديمقراطيين، انه ذكر له: "صادف أني جئت سائرا في طريقي في منطقة باب الشيخ التي كنت أسكن فيها، أن توقفت أمام حانوت لشراء علبة سكائر، فإذا بجميل توما يتقدم مسرعا نحوي، وببساطته المعهودة قال لي: أظنك تيهت (يقصد ضيعت طريق الاجتماع) فالاجتماع المتفق عليه هناك، وأشار إلى دار قاسم حسن في باب الشيخ وقال لي: سيحضر الاجتماع كل من عاصم فليح وقاسم حسن ويوسف إسماعيل ويوسف متى ونوري روفائيل وحسن عباس الكرباسي وعبد الحميد الخطيب، وربما ذكر لي أشخاصا آخرين لم اعد أتذكرهم، وقال لي، تفضل بالحضور معي لحضور الاجتماع معنا." (ص32). ومهما كانت الوقائع وأسلوب نقلها فان الأسماء الواردة معروفة بتوجهاتها الاشتراكية ومواقفها المعارضة للاستعمار، وهم من ضمن من شكّل النواتات الأولى التي تحملت رفع رايات البناء الحزبي والسياسي بما يتفق مع الظروف والمهمات التي كانت في تلك الأيام.
في تموز/ يوليو عام 1935 صدرت جريدة باسم "كفاح الشعب" تحمل تحت عنوانها لسان حال اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، بدلا من اسم لجنة مكافحة الاستعمار والاستثمار، التي ظهر بيانها الأول قبل عام. واغلب الظن عند المؤلف أن عاصم فليح، أول سكرتير للحزب الشيوعي هو المبادر إلى تغيير الاسم من اللجنة إلى الحزب بعد أن رفض الاقتراح المقدم من يوسف سلمان في التحضيرات الأولى حينها وبعد الإنسحابات منها. وفي آب/ أغسطس 1935 صدر العدد الثاني من الجريدة متضمنا المبادئ والأهداف التي يسير عليها الحزب كمنهج لنضاله السياسي. ولم يكن تحمل المسؤولية سهلا في البدايات وواجه الحزب صعوبات متعددة، من بينها اعتقال قياداته واندساسات مشبوهة، وافتقاره إلى عمود فقري مركزي حسب تقييم بطاطو لمسيرته الأولى. مما جعل هذه الفترة خاملة في حياة الحزب، فأعيد لها النشاط من جديد حسب المؤلف وبطاطو وغيرهما بعد عودة فهد من دراسته في مدرسة كادحي الشرق في موسكو (معهد أكاديمي حزبي)، في 13 كانون الثاني/ يناير 1938، التي درس فيها أيضا عاصم فليح، وغيرهما طبعا، وهنا يقيّم المؤلف دور فهد في إعادة تأسيس الحزب، ويسميه الباني والمؤسس والقائد، في عنوان الباب الثاني من الكتاب.
فهد والحزب والشرارة
بعد عودته إلى العراق بدأ من بغداد نشاطه الفكري والتنظيمي وعن طريق صديقه الشاعر حافظ الخصيبي تعرف على عدد من الذين عرفوا بميولهم اليسارية والشيوعية، زيادة على صلاته السابقة، وكان قد اختار أولا إسما حركيا عرف به وهو "سعيد" ثم أختار له اسم "فهد" الذي صار معروفا به في جميع الأوساط السياسية داخل وخارج العراق، وكان يكتب وينشر بأسماء أخرى. وفي تلك الفترة يوثق الباحثون والمؤرخون نشاطا واضحا للحزب والحركة العمالية ويعيدونها لدور فهد وما قدمه من سعي في إعادة التأسيس والبناء واستخدام تجربته وما درسه في موسكو في التطبيق العملي لبناء حزب شيوعي، فوضع الخطوط الأساسية لصياغة منهاج للحزب، مجسدا بأفكاره ونضال الحزب مفهوم مرحلة التحرر الوطني من أجل استكمال استقلال العراق وقيام حكم ديمقراطي وإيقاظ الوعي الطبقي والوطني. وفي بداية عام 1940 أصدر جريدة "الشرارة" ونشر كراسات تثقيفية وأشرف على مجلة (المجلة) التي كانت تصدر بأسماء أعضاء في الحزب، وتوسيع عمل وتنظيم الحزب بفعل هذه الهمة والتوجهات التي بادر بها ونفذها. ولعل من ابرز من انضم للحزب من العمال والمثقفين: عبد الله مسعود وحسين محمد الشبيبي والعامل المهني احمد عباس الملقب"عبد تمر" وداود الصائغ وزكي محمد بسيم والعامل علي شكر وغيرهم، الذين رفدوا الحزب بطاقاتهم وجهودهم وساعدوا فهدا بمهماته. وتركز النشاط العمالي على الاهتمام بتأسيس نقابات عمالية لجميع أصناف العمل وفروعه. وفي تنوعه التنظيمي ومواقفه السياسية برز الحزب قوة فاعلة في الأحداث التي مرت على العراق. وختم بياناته في عبارات وضحت مكانته ودوره، في مخاطبة أبناء الوطن واستصرخاهم للالتفاف حول راية التحرر الوطني، في ظروف الحرب العالمية والمواقف منها، مثل "نكرر دعوتنا إلى أبناء شعبنا، عمالا وفلاحين، تجارا ومثقفين، وقادة مخلصين، ورجال الحكم المسؤولين إلى السير كتلة واحدة تحت علم الانعتاق الخفاق". وفي موقف الحزب من معركة الجيش الوطنية ضد الاحتلال البريطاني، حيث بادر الحزب وفهد إلى تأييد الجيش العراقي معتبرا المعركة التي يخوضها الجيش هي حرب دفاعية ضد عدو مستعمر لابد من إسنادها، وانه لا خيار للحزب وقد وقعت الحرب إلا أن يقف إلى جانب الشعب والجيش في المعركة هذه. كما نشط الحزب لتجميع القوى الديمقراطية العراقية وتأييد النضال التقدمي العالمي ضد الحرب والفاشية والنازية. ويستعرض المؤلف بيانات الحزب والانشقاقات التي حصلت فيه في تلك الفترة والتي أسهمت في تركيز القيادة للحزب بيد فهد وتحديد مهامه الوطنية والأممية. ويلخصها المؤلف في الفصل السادس في نقاط: نضال الحزب في مهام الحرب ضد الفاشية، والصمود أمام الهجوم الرجعي، والعمل والسعي لتقوية تنظيمات الحزب وتوسيعها وامتدادها إلى أنحاء القطر كافة، والعمل على إنشاء نقابات عمالية للمهن كافة، ودعوة القوى الوطنية والديمقراطية إلى تنظيم نفسها في أحزاب ورفع شعار "قووا تنظيم حزبكم.. قووا تنظيم الحركة الوطنية" والإعلان بكل حزم استعداده لمؤازرة التنظيمات الوطنية الديمقراطية. (ص73).
وينتقل المؤلف بعد أن فصّل في كتاب فهد الذي أصدره عام 1944 "حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية" إلى مؤتمرات الحزب، التي ينعتها بمآثر فهد التاريخية الكبرى، في إعادة تأسيس الحزب واستكمال أسسه النظرية وقواعده التنظيمية، من خلال المجلس (الكونفرنس) الأول عام 1944 والمؤتمر الوطني الأول عام 1945. وهنا احسن المؤلف في قراءة الأسباب التي دفعت فهد والحزب إلى التفكير والعمل في هذا السبيل. إذ أن الأوضاع الداخلية والخارجية قد وفرت ظروفا ملائمة أو واجبة لعقد مؤتمر وإصدار منهج. ففي آذار/ مارس 1944 أعلن عن الكونفرنس الأول الذي تمخض عن ميثاق وطني، بعد شهر أو أكثر من إصدار كراسه "حزب شيوعي.. لا اشتراكية ديمقراطية". وكانت لهذه العجالة أسبابها لخصها النعمان، في التطورات السياسية والفكرية وكذلك في انعقاد مؤتمر الحزب الشيوعي السوري اللبناني أواخر عام 1943، وكانت جريدة الحزب تصل بغداد طافحة بأخبار المؤتمر ووقائعه، وانعكاسها داخل صفوف الحزب والانشقاق الذي استغل ذلك في الطعن بمواقف فهد والحزب من المؤتمر. وهناك حقيقة يضعها فهد أمام ناظريه، كما سجل الكاتب، وهي أن الحركة الوطنية العامة في العراق تفتقر آنذاك إلى نظرة واقعية وتحليل علمي لواقع مجتمعنا العراقي وأوضاعه الداخلية والخارجية وبالتالي أهدافه، ولعل هذا الافتقار إلى النظرية من أهم أسباب تلكئها في تأليف أحزاب لها وكان يتساءل دائما عما اعددنا لبناء مستقبلنا في ظروف هذه الحرب التي أوشكت على تحقيق النصر على الفاشية وما سيكون بعد انتهائها؟، ما هو دور وواجب فصائل الحركة الوطنية؟، هل تبقى مبعثرة في هذه الظروف التي تتطلب التعاون والتكاتف وضم الصفوف لمجابهة المرحلة الجديدة حيث يعمل المستعمر البريطاني على هيمنته السياسية والعسكرية والاقتصادية على بلادنا.. الخ؟. (ص101-102). وقدم فهد في الكونفرنس تقريرا مهما، لخص قدرات فهد في تأصيل نظري لعمل الحزب، ودعا إلى ضرورة النهوض بالمهمات المطلوبة. حيث كتب إن العراق يوصف بدولة ديمقراطية لا يملك من الديمقراطية سوى اسمها، وطالب بإلغاء القوانين الاستثنائية والمراسيم المناقضة لروح الدستور وتحدث عن ثروة العراق التي لم يصب الشعب منها شيئا، وأشار إلى نمو الطبقة العاملة ودورها القيادي وحجمها الذي بلغ اكثر من ربع سكان القطر، وصدر في ختام الكونفرنس - الميثاق الوطني للحزب الشيوعي العراقي. وختم المؤلف فصله بتقرير أن اللجنة التي انتخبت من الكونفرنس أظهرت نشاطا ملحوظا خطا الحزب بها خطوات واسعة في كسب الجماهير ونمو الكادر الحزبي، مما فرض التوجه إلى التنظيم المبرمج والتحضير للمؤتمر الحزبي الموسع.
المؤتمر الأول للحزب الشيوعي وقيادة فهد
بعد عام من انتهاء المجلس الحزبي وتوسع عمل الحزب والتطورات السياسية الداخلية والخارجية دفعت بفهد ورفاقه إلى العمل على عقد المؤتمر الأول للحزب في نيسان/ أبريل 1945 في دار يهودا صديق في بغداد. ابرز المؤتمر فهد قائدا سياسيا وفكريا ومنظما مجربا، وأضاف المؤلف له اغلب النشاط والعمل ولم يتوقف عند غيره أو رفاقه المساعدين له وحاول كما عبر عنه أن يضعه في موقعه الذي رآه فيه وشاهده في التحضير والإعداد والتسمية للمؤتمر بمؤتمر التنظيم، والإقرار بما قدمه فهد من تقارير عن أهمية انعقاد المؤتمر وعن الأوضاع السياسية الداخلية والعالمية ومهمات النضال الوطني للحزب في تلك الظروف. أكد فهد فيها على استغلال بريطانيا ظروف الحرب للتدخل والسيطرة على شؤون الدول وعلى مرافق البلاد الحيوية، كما أشار إلى "التنافس الاستعماري في بلادنا بين الإنكليز والأمريكان للاستحواذ على مصادر نفطية في البلاد العربية وللدفاع عن الصهيونية في سعيهم للتفرقة بين القوميتين الرئيسيتين العربية والكردية". وخلص فهد في تقريره الداخلي إلى: "إن الواجب الوطني أيها الرفاق يلقي علينا مسؤولية عظمى، مسؤولية تنبيه شعبنا إلى محاولات المستعمرين لتثبيت النفوذ الاستعماري في بلادنا، وإلى الدسائس الاستعمارية الرامية إلى تقسيم شعبنا وتفريقه.. إن الواجب يدعونا أيها الرفاق إلى العمل السريع على تنظيم شعبنا وتجنيد قواه لإحباط محاولات الذين يريدون تفريق شعبنا".(ص116- 117). وبعد انتهاء أعمال المؤتمر نشط الحزب في الميادين المختلفة من الكفاح الوطني، في توسيع التنظيم الحزبي وانتشاره في اغلب المدن العراقية والنقابات العمالية والتجمعات الطلابية والفلاحية والعسكرية والنسائية والإضرابات العمالية والاحتجاجات الشعبية، وصولا إلى تقديم إجازة رسمية لحزب باسم حزب التحرر الوطني كواجهة علنية له، فضلا عن تأسيس منظمة عصبة مكافحة الصهيونية، وإصدار صحف أو مشاركة في تحرير أخرى وإنشاء دار الحكمة للنشر والدعوة إلى الجبهة الوطنية وتنسيق نضال القوى الديمقراطية. وشهدت للحزب ولفهد ودوره ومواقفه في العراق طبيعة الظروف السياسية والهجمة الرجعية الداخلية والخارجية عليه وعلى الحركة الوطنية العراقية، إثر فترة من الانفراج السياسي والتحرري بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
يتوسع المؤلف في شرح نشاطات فهد في قيادته لاقتحام الحزب ميادين العمل السياسي والوطني، واستعراض قدراته الفكرية والثقافية والتنظيمية، مسلطا ضوء على كتابه عن البطالة وأسبابها، الذي مازال أو اصبح الآن اكثر أهمية ومصداقية عن الوضع في العراق. حيث حلل فيه ظاهرة البطالة ودور السيطرة الأجنبية، العلة الرئيسة وراءها، ونص: "لو استثمرت ثروات النفط بأمانة ولصالح النفع العام الوطني لوظفت صناعة النفط جميع الأيدي العاملة في المدن والريف، لكن نفط العراق محتكر من قبل مجموعة "ديتردنك" النفطية" وكذلك أشار إلى الأسباب الأخرى واهمها عدم تطور الصناعة وهذا ناتج عن السياسة البريطانية الاستعمارية التي تسيّر الإدارات لمنع تصنيع القطر، والنظام شبه الإقطاعي السائد في الريف وغيرها من العوامل المعلومة.
إثر إرتفاع المد الوطني والقومي العربي جرت المطالبة بتغيير المعاهدة العراقية البريطانية وجعلها سياسية فقط، مما أثار السفارة البريطانية ورجالات البلاط مندفعين إلى التحرك المضاد والعمل على تكبيل الحركة الوطنية باتفاقات أخرى مع المستعمرين مثل مشروع المعاهدة العراقية التركية ومحاولات إبعاد العراق عن محيطه العربي وإيجاد المسوغات لبقاء قوات الاحتلال البريطانية. وفي سبيل ذلك سعى الحزب إلى عدم ضياع الفرص الوطنية داعيا إلى تطوير العمل الجبهوي ردا على الهجوم الواضح من السفارة البريطانية واتباعها في الحكومة العراقية، والهجوم الإمبريالي الخارجي على الشعب الفلسطيني والعالم العربي عموما، فعمل بكل جهوده إلى المشاركة في لجان الدفاع عن الشعب الفلسطيني، ومجابهة حملات القمع والاعتقال وقيادة الإضرابات العمالية والتحركات الشعبية. معززا ذلك في مذكرات تحريرية، منها المذكرة التي بعثها فهد إلى الأحزاب الوطنية ودعاها إلى الكفاح في سبيل استكمال استقلال العراق وتعزيز سيادته الوطنية ومن اجل الحريات الديمقراطية وتثبيتها وتوسيعها والتعاون العربي ضد المستعمرين. ( نصها في ص 213- 215).
الكارثة.. لقد وقعت الواقعة
ويصل المؤلف إلى الفصل الثالث عشر ويعنونه بالكارثة، وهي نجاح الهجمة الرجعية في اعتقال فهد والعديد من القيادات والكوادر الشيوعية والديمقراطية. ففي عصر يوم 18/1/1947 اعتقل فهد وزكي محمد بسيم وابراهيم ناجي وعزيز عبد الهادي ويعقوب اسحيق والسيدة أيلين، زوجة إبراهيم ناجي صاحب الدار التي كانوا فيها. وكان قد اعتقل فجر ذلك اليوم جميع أعضاء الهيئة المؤسسة لحزب التحرر الوطني وأشخاص لا صلة لهم بالحزب. ويختم المؤلف الباب الثالث من كتابه عن الحياة في السجن، إلى يوم اختطاف القيادة وفي المقدمة فهد من سجن الكوت إلى سجن ببغداد لتنفيذ حكم الإعدام بها يوم 14/ 2/1949. وفي هذا الباب تفاصيل كثيرة عن السجن وعن حياة فهد فيه وعن الرسائل المتبادلة بينه وقيادة الحزب وسلوك فهد القيادي وفي الرسائل، إضافة إلى المواقف المشهودة لفهد تتضح قدراته الفكرية والقيادية حيث يوضح وهو في السجن إلى القيادات الميدانية أساليب النضال وقيادة الشارع وتوجيهات العمل السياسي والعمل الوطني، وهي بمجملها تأكيد على الكثير مما ذهب إليه المؤلف عن فهد ودوره وكفاحه الوطني ومعرفة العدو الطبقي والسياسي بها وجهوده الكبيرة في التخلص منه وحرمان الشعب العراقي والحركة العمالية والوطنية من شخصية من هذا المعيار بكل المعاني. والخلاصة أن الكتاب والكاتب قدما صورة بارزة وواقعية لمناضل حقيقي ومثقف عضوي وقائد فعلي لحزب وحركة وشعب في ظروف ليست يسيرة ومنعرجات حادة في صفحات التاريخ الوطني. وقد يكون، وهذا ما لم يشر إليه المؤلف، إصرار الحكومة البريطانية على استمرار غلق ملفها عن فهد بخلاف قواعدها في النشر وطول الفترة الزمنية عليها، إشارة أخرى وتأكيدا مهما على مكانة فهد وقيادته، ودورها في استشهاده.
قبل الدخول في الرد على هذه الأسئلة وغيرها لابد من الإشارة إلى أن كتبا عديدة صدرت عن تاريخ الحزب وعن فهد بالذات، من بينها ما كتبته المناضلة الشيوعية العراقية الدكتورة سعاد خيري وتاريخ الحزب الشيوعي بالتعاون مع زوجها القائد الشيوعي زكي خيري أيضا، وكذلك ما نشره الحزب عنه، مثل: كتابات الرفيق فهد من إعداد وإصدار فخري كريم وتقديم زكي خيري، وكتاب عزيز سباهي في ثلاثة أجزاء باسم عقود من تاريخ الحزب الشيوعي وتقديم عبد الرزاق الصافي، فضلا عن العديد من الكتب العامة مثل الجزء الخاص بالحزب من دراسة الباحث الأمريكي- العربي الأصل حنا بطاطو عن العراق، (ترجمت إلى العربية ونشرت في ثلاثة كتب) وكتاب عن فهد والحركة الوطنية لكاظم حبيب وزهدي الداوودي، وكتاب صفحات من تاريخ العراق السياسي الحديث- الحركات الماركسية لصلاح الخرسان، والكتب التي سميت بموسوعات عن الحزب الشيوعي العراقي أصدرتها دوائر الأمن العراقية وغيرها من الكتب المشابهة بلغات أجنبية ولم تترجم إلى العربية من باحثين وكتاب سياسيين في البلدان الاشتراكية سابقا، ومن ضمنها كتاب صدر بالإنجليزية مؤخرا عن الحزب الشيوعي العراقي لطارق إسماعيل، وآخر ما صدر عن فهد والحزب كتاب سنتناوله في هذا المقال، بعنوان "الحزب الشيوعي العراقي بقيادة فهد"، لعضو مخضرم في الحزب واكب حياة فهد وعاش معه فترات مختلفة، وهو المحامي سالم عبيد النعمان، أصدره عن دار المدى ببغداد في 328 صفحة من الحجم الكبير، متضمنا ثلاثة أبواب في سبعة عشر فصلا وملاحق احتوت رسائل فهد إلى قيادة الحزب من سجنه. ومن خلال اعتزازه بخبرته وتجربته وصلته بفهد أعاد في كتابه قارئه إلى الأربعينات من القرن الماضي، ليطل من خلال نظرة لا يقول عنها أنها متكاملة وربما يكون شطر منها بمنزلة شهادة لشخص عمل فترة من حياته المبكرة في صفوف الحزب الشيوعي في الأربعينات من القرن الماضي تحت قيادة فهد وعلى مقربة منه حتى لحظة اختطافه من السجن. (ص 292) أو استرجاع إلى الإرهاصات والبدايات التي فجرها تأسيس الحزب الشيوعي وقيادة فهد وتطورات عمله وتأثيره في تلك الفترة التي كانت عهد تحول وانعطاف في مسار الحركة الوطنية وأساليب كفاحها ضد الاستعمار البريطاني للعراق والرجعية المحلية التابعة، وتسجيل قدراته المتعددة في بناء الحزب الشيوعي والاستفادة من التغيرات السياسية الدولية والإقليمية وانعكاساتها على الحركة السياسية في العراق.
في المقدمة يكتب المؤلف انه حرص على تسجيل وقائع مسيرة الحزب متسلسلة مع زمن حدوثها، علما بأنه لا يدعي الإلمام بها تماما، ويضيف انه كتب ما شاهده وما أحاط به بأمانة وصدق، مقيما مأثرة فهد الكبرى التي تضاف إلى مآثره الجمة في اكتمال بناء الحزب من خلال وضع أسس البناء ووثائق العمل ليكون الحزب صرحا عظيما اكتمل بناؤه بقيادته وليكون له دوره الكبير في الحركة الوطنية. (ص 8).
فهد اسم حركي اختاره يوسف سلمان يوسف، الذي ولد في بغداد عام 1901 وانتقل مع والده إلى البصرة والناصرية، ولما لم تساعد حالة والده المالية على إكمال دراسته المتوسطة انخرط في صفوف الطبقة العاملة. ويسأل المؤلف عن بواكير تأثره ووعيه ويرد عليها: ابتداء كان يوسف سلمان واعيا لواقع شعبه المحتل، وهو كأقرانه مملوء كرها للمستعمر الذي احتل البلاد قهرا، ثم انه كأي مثقف شغوف بالمطالعة وتتبع الأحداث، كان على علم بثورة أكتوبر الاشتراكية وبدورها في فضح خطط المستعمرين، وعاصر ثورة العشرين وهو شاب وعمل على تأييدها. وعن بداياته الفكرية تأثره بلقاءاته مع رجال الفكر التقدميين وبقيادات عمالية وبشيوعيين خاصة من الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي كان أول حزب شيوعي تشكل في البلاد العربية. أما متى بدأت الخلايا الشيوعية في العراق فيرى المؤلف صعوبة معرفة تاريخ تأليفها، ويكتب عنها في الغالب أنها ظهرت في أواخر العشرينات من القرن المنصرم، ربما عام 1927 أو 1928 لقد كانت وليدة أسفار يوسف سلمان الأولى وهي في كل الأحوال تسبق ظهور نادي الشباب في البصرة أو جمعية الأحرار التي كانت من بنات أفكار يوسف والنشطاء المثقفين من زملائه سنتي 1928-1929، ويظن النعمان أن الخلايا الشيوعية مع جمعية الأحرار كانتا أولى البذور المثمرة للحركة الشيوعية في العراق. وهنا يحاول المؤلف تجنب البحث في الإرهاصات الأخرى التي نمت في المدن الأخرى كبغداد وجماعات أصدرت صحفا ونشرت كتبا عن الاشتراكية والنهضة الفكرية التقدمية في العراق، كجماعة (الصحيفة) مثلا وغيرها، وهو ما حاول قوله في البداية من انه يسجل ما يعرفه أو يريده، مخلا في هذا الجانب بالموضوعية التوثيقية وأمانة التسجيل التاريخية لشخصيات وتجمعات لعبت أدوارا هي الأخرى مع الحزب وفهد في وضع اللبنات الأولى أو البذور وفي تعزيز الحركة الوطنية والفكرية والسياسية في العراق. وقد يشفع لنفسه هنا انه اختار سياق بحثه حصرا عن حياة يوسف سلمان كما يبدو أو رغب به شخصيا لعوامل الإعجاب ورد الجميل لشخصية تاريخية جذابة وبارزة. وزيادة على هذه الملاحظة هناك مواقف مسبقة متناثرة لا تفيد في موضوعية الكتاب وتؤثر في جوانب المصداقية والحيادية في التسجيل والنشر المعاصر لصفحات التاريخ. وفي تعريف المؤلف للنشاطات الأولى ليوسف سلمان في البصرة يقرنها بوثيقة الأممية الثالثة (الكومنترن) إلى الشعوب العربية ودعوتها إلى التحرر والنضال ضد المستعمرين الذين قطعوا أوصال الجسد العربي الحي، حيث أن "مجمل نظام السيطرة الإمبريالية على الشعوب العربية لا يستند إلى استعبادها المباشر بل والى تقطيع أوصالها بصورة اعتباطية. فالتجزئة هنا أساس من أساسيات السيطرة الإمبريالية التي أقيمت ويحافظ عليها بالعنف الإمبريالي والتي تضعف الجماهير بصورة مصطنعة في نضالها ضد النير الأجنبي ومن اجل الاستقلال والوحدة الوطنية". ودعا الكومنترن إلى خوض النضال من اجل الاستقلال الوطني والوحدة القومية على النطاق العربي.
ويبدأ المؤلف في تبيان انتماءات يوسف سلمان إلى الحزب الوطني العراقي ( بزعامة الشخصية الوطنية التاريخية جعفر أبو التمن) والعمل الصحفي وسفراته ولقاءاته التي ساعدته على تنمية وعيه الوطني والإنساني وكرهه للاستعمار ومن ثم انطلاقه العملي في ضرورة أن يكون للطبقة العاملة حزبها الممثل لتطلعاتها وأهدافها. فكانت باكورة الخطوات الأولى الممهدة لقيام حزب شيوعي أقدامه على رفع مستوى التنظيم الخلوي البدائي إلى مستوى جديد والى إصدار أول بيان شيوعي موجه إلى الطبقة العاملة يدعوها إلى تفهم أوضاعها ورفع وعيها الطبقي وإظهار كيانها السياسي. وكان ذلك في 13 كانون أول/ ديسمبر 1932 حيث اصدر أول بيان يحمل شعار " يا عمال العالم اتحدوا" ورسم المنجل والمطرقة وقد وزع في شوارع مدينة الناصرية بتوقيع عامل شيوعي. وتمت محاكمة يوسف سلمان بتهمة تأسيس تنظيم شيوعي وترويج الدعاية الشيوعية في العراق وبعد مضايقات الشرطة له غادر الناصرية عائدا إلى بغداد، العاصمة ليواصل جهوده منها. حيث تنشط فيها تجمعات وأحزاب وطنية وتقدمية تعمل هي الأخرى تعبيرا عن مصالح فئاتها وقياداتها.
لجنة مكافحة الاستعمار والاستثمار
في جو بغداد النشط سياسيا وفكريا وجد يوسف سلمان نفسه وسط مجموعة أخرى أيضا من المتحمسين للعمل السياسي والكارهين للاستعمار والمعجبين بثورة أكتوبر الاشتراكية والمتأثرين بعصبة أو لجنة "مكافحة الإمبريالية" (التي ساند تأسيسها الكومنترن في 10 شباط/ فبراير 1928 ومقرها في بروكسل)، وأثنت المجموعة على بيانه وتوقيعه كعامل شيوعي فأسرعت معه إلى تأليف "لجنة مكافحة الاستعمار والاستثمار" بهدف تحرير العراق من النفوذ الاستعماري وتحقيق الاستقلال والسيادة الوطنية وتامين الرفاه الاقتصادي والاجتماعي للشعب العراقي وذلك بتبني مبادئ الاشتراكية العلمية وأساليبها في الكفاح لتحقيق المبادئ التي رسمتها اللجنة. وهنا يتساءل المؤلف مع غيره من الباحثين عن موعد تأسيسها وتحولها ومن هم المؤسسون وما هو ومن هم الذين حضّروا لها، ولماذا يجري الاحتفال بيوم 31 آذار/ مارس 1934 يوما لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي وغيرها من الأسئلة التي لم تحصل على ما يوثق الأجوبة عليها. والراجح أن التاريخ هذا تم باختيار مجهول وجرت العادة عليه دون تدقيق كبير، لاسيما وأنه لا يشكل خلافا كبيرا في المواعيد، حيث هناك اكثر من رأي يجمع على العام نفسه، إضافة إلى تحوله إلى جزء من التاريخ السياسي للحزب. ويروي المؤلف عن لقائه بعبد الفتاح إبراهيم، أحد ابرز الناشطين الماركسيين والسياسيين الديمقراطيين، انه ذكر له: "صادف أني جئت سائرا في طريقي في منطقة باب الشيخ التي كنت أسكن فيها، أن توقفت أمام حانوت لشراء علبة سكائر، فإذا بجميل توما يتقدم مسرعا نحوي، وببساطته المعهودة قال لي: أظنك تيهت (يقصد ضيعت طريق الاجتماع) فالاجتماع المتفق عليه هناك، وأشار إلى دار قاسم حسن في باب الشيخ وقال لي: سيحضر الاجتماع كل من عاصم فليح وقاسم حسن ويوسف إسماعيل ويوسف متى ونوري روفائيل وحسن عباس الكرباسي وعبد الحميد الخطيب، وربما ذكر لي أشخاصا آخرين لم اعد أتذكرهم، وقال لي، تفضل بالحضور معي لحضور الاجتماع معنا." (ص32). ومهما كانت الوقائع وأسلوب نقلها فان الأسماء الواردة معروفة بتوجهاتها الاشتراكية ومواقفها المعارضة للاستعمار، وهم من ضمن من شكّل النواتات الأولى التي تحملت رفع رايات البناء الحزبي والسياسي بما يتفق مع الظروف والمهمات التي كانت في تلك الأيام.
في تموز/ يوليو عام 1935 صدرت جريدة باسم "كفاح الشعب" تحمل تحت عنوانها لسان حال اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، بدلا من اسم لجنة مكافحة الاستعمار والاستثمار، التي ظهر بيانها الأول قبل عام. واغلب الظن عند المؤلف أن عاصم فليح، أول سكرتير للحزب الشيوعي هو المبادر إلى تغيير الاسم من اللجنة إلى الحزب بعد أن رفض الاقتراح المقدم من يوسف سلمان في التحضيرات الأولى حينها وبعد الإنسحابات منها. وفي آب/ أغسطس 1935 صدر العدد الثاني من الجريدة متضمنا المبادئ والأهداف التي يسير عليها الحزب كمنهج لنضاله السياسي. ولم يكن تحمل المسؤولية سهلا في البدايات وواجه الحزب صعوبات متعددة، من بينها اعتقال قياداته واندساسات مشبوهة، وافتقاره إلى عمود فقري مركزي حسب تقييم بطاطو لمسيرته الأولى. مما جعل هذه الفترة خاملة في حياة الحزب، فأعيد لها النشاط من جديد حسب المؤلف وبطاطو وغيرهما بعد عودة فهد من دراسته في مدرسة كادحي الشرق في موسكو (معهد أكاديمي حزبي)، في 13 كانون الثاني/ يناير 1938، التي درس فيها أيضا عاصم فليح، وغيرهما طبعا، وهنا يقيّم المؤلف دور فهد في إعادة تأسيس الحزب، ويسميه الباني والمؤسس والقائد، في عنوان الباب الثاني من الكتاب.
فهد والحزب والشرارة
بعد عودته إلى العراق بدأ من بغداد نشاطه الفكري والتنظيمي وعن طريق صديقه الشاعر حافظ الخصيبي تعرف على عدد من الذين عرفوا بميولهم اليسارية والشيوعية، زيادة على صلاته السابقة، وكان قد اختار أولا إسما حركيا عرف به وهو "سعيد" ثم أختار له اسم "فهد" الذي صار معروفا به في جميع الأوساط السياسية داخل وخارج العراق، وكان يكتب وينشر بأسماء أخرى. وفي تلك الفترة يوثق الباحثون والمؤرخون نشاطا واضحا للحزب والحركة العمالية ويعيدونها لدور فهد وما قدمه من سعي في إعادة التأسيس والبناء واستخدام تجربته وما درسه في موسكو في التطبيق العملي لبناء حزب شيوعي، فوضع الخطوط الأساسية لصياغة منهاج للحزب، مجسدا بأفكاره ونضال الحزب مفهوم مرحلة التحرر الوطني من أجل استكمال استقلال العراق وقيام حكم ديمقراطي وإيقاظ الوعي الطبقي والوطني. وفي بداية عام 1940 أصدر جريدة "الشرارة" ونشر كراسات تثقيفية وأشرف على مجلة (المجلة) التي كانت تصدر بأسماء أعضاء في الحزب، وتوسيع عمل وتنظيم الحزب بفعل هذه الهمة والتوجهات التي بادر بها ونفذها. ولعل من ابرز من انضم للحزب من العمال والمثقفين: عبد الله مسعود وحسين محمد الشبيبي والعامل المهني احمد عباس الملقب"عبد تمر" وداود الصائغ وزكي محمد بسيم والعامل علي شكر وغيرهم، الذين رفدوا الحزب بطاقاتهم وجهودهم وساعدوا فهدا بمهماته. وتركز النشاط العمالي على الاهتمام بتأسيس نقابات عمالية لجميع أصناف العمل وفروعه. وفي تنوعه التنظيمي ومواقفه السياسية برز الحزب قوة فاعلة في الأحداث التي مرت على العراق. وختم بياناته في عبارات وضحت مكانته ودوره، في مخاطبة أبناء الوطن واستصرخاهم للالتفاف حول راية التحرر الوطني، في ظروف الحرب العالمية والمواقف منها، مثل "نكرر دعوتنا إلى أبناء شعبنا، عمالا وفلاحين، تجارا ومثقفين، وقادة مخلصين، ورجال الحكم المسؤولين إلى السير كتلة واحدة تحت علم الانعتاق الخفاق". وفي موقف الحزب من معركة الجيش الوطنية ضد الاحتلال البريطاني، حيث بادر الحزب وفهد إلى تأييد الجيش العراقي معتبرا المعركة التي يخوضها الجيش هي حرب دفاعية ضد عدو مستعمر لابد من إسنادها، وانه لا خيار للحزب وقد وقعت الحرب إلا أن يقف إلى جانب الشعب والجيش في المعركة هذه. كما نشط الحزب لتجميع القوى الديمقراطية العراقية وتأييد النضال التقدمي العالمي ضد الحرب والفاشية والنازية. ويستعرض المؤلف بيانات الحزب والانشقاقات التي حصلت فيه في تلك الفترة والتي أسهمت في تركيز القيادة للحزب بيد فهد وتحديد مهامه الوطنية والأممية. ويلخصها المؤلف في الفصل السادس في نقاط: نضال الحزب في مهام الحرب ضد الفاشية، والصمود أمام الهجوم الرجعي، والعمل والسعي لتقوية تنظيمات الحزب وتوسيعها وامتدادها إلى أنحاء القطر كافة، والعمل على إنشاء نقابات عمالية للمهن كافة، ودعوة القوى الوطنية والديمقراطية إلى تنظيم نفسها في أحزاب ورفع شعار "قووا تنظيم حزبكم.. قووا تنظيم الحركة الوطنية" والإعلان بكل حزم استعداده لمؤازرة التنظيمات الوطنية الديمقراطية. (ص73).
وينتقل المؤلف بعد أن فصّل في كتاب فهد الذي أصدره عام 1944 "حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية" إلى مؤتمرات الحزب، التي ينعتها بمآثر فهد التاريخية الكبرى، في إعادة تأسيس الحزب واستكمال أسسه النظرية وقواعده التنظيمية، من خلال المجلس (الكونفرنس) الأول عام 1944 والمؤتمر الوطني الأول عام 1945. وهنا احسن المؤلف في قراءة الأسباب التي دفعت فهد والحزب إلى التفكير والعمل في هذا السبيل. إذ أن الأوضاع الداخلية والخارجية قد وفرت ظروفا ملائمة أو واجبة لعقد مؤتمر وإصدار منهج. ففي آذار/ مارس 1944 أعلن عن الكونفرنس الأول الذي تمخض عن ميثاق وطني، بعد شهر أو أكثر من إصدار كراسه "حزب شيوعي.. لا اشتراكية ديمقراطية". وكانت لهذه العجالة أسبابها لخصها النعمان، في التطورات السياسية والفكرية وكذلك في انعقاد مؤتمر الحزب الشيوعي السوري اللبناني أواخر عام 1943، وكانت جريدة الحزب تصل بغداد طافحة بأخبار المؤتمر ووقائعه، وانعكاسها داخل صفوف الحزب والانشقاق الذي استغل ذلك في الطعن بمواقف فهد والحزب من المؤتمر. وهناك حقيقة يضعها فهد أمام ناظريه، كما سجل الكاتب، وهي أن الحركة الوطنية العامة في العراق تفتقر آنذاك إلى نظرة واقعية وتحليل علمي لواقع مجتمعنا العراقي وأوضاعه الداخلية والخارجية وبالتالي أهدافه، ولعل هذا الافتقار إلى النظرية من أهم أسباب تلكئها في تأليف أحزاب لها وكان يتساءل دائما عما اعددنا لبناء مستقبلنا في ظروف هذه الحرب التي أوشكت على تحقيق النصر على الفاشية وما سيكون بعد انتهائها؟، ما هو دور وواجب فصائل الحركة الوطنية؟، هل تبقى مبعثرة في هذه الظروف التي تتطلب التعاون والتكاتف وضم الصفوف لمجابهة المرحلة الجديدة حيث يعمل المستعمر البريطاني على هيمنته السياسية والعسكرية والاقتصادية على بلادنا.. الخ؟. (ص101-102). وقدم فهد في الكونفرنس تقريرا مهما، لخص قدرات فهد في تأصيل نظري لعمل الحزب، ودعا إلى ضرورة النهوض بالمهمات المطلوبة. حيث كتب إن العراق يوصف بدولة ديمقراطية لا يملك من الديمقراطية سوى اسمها، وطالب بإلغاء القوانين الاستثنائية والمراسيم المناقضة لروح الدستور وتحدث عن ثروة العراق التي لم يصب الشعب منها شيئا، وأشار إلى نمو الطبقة العاملة ودورها القيادي وحجمها الذي بلغ اكثر من ربع سكان القطر، وصدر في ختام الكونفرنس - الميثاق الوطني للحزب الشيوعي العراقي. وختم المؤلف فصله بتقرير أن اللجنة التي انتخبت من الكونفرنس أظهرت نشاطا ملحوظا خطا الحزب بها خطوات واسعة في كسب الجماهير ونمو الكادر الحزبي، مما فرض التوجه إلى التنظيم المبرمج والتحضير للمؤتمر الحزبي الموسع.
المؤتمر الأول للحزب الشيوعي وقيادة فهد
بعد عام من انتهاء المجلس الحزبي وتوسع عمل الحزب والتطورات السياسية الداخلية والخارجية دفعت بفهد ورفاقه إلى العمل على عقد المؤتمر الأول للحزب في نيسان/ أبريل 1945 في دار يهودا صديق في بغداد. ابرز المؤتمر فهد قائدا سياسيا وفكريا ومنظما مجربا، وأضاف المؤلف له اغلب النشاط والعمل ولم يتوقف عند غيره أو رفاقه المساعدين له وحاول كما عبر عنه أن يضعه في موقعه الذي رآه فيه وشاهده في التحضير والإعداد والتسمية للمؤتمر بمؤتمر التنظيم، والإقرار بما قدمه فهد من تقارير عن أهمية انعقاد المؤتمر وعن الأوضاع السياسية الداخلية والعالمية ومهمات النضال الوطني للحزب في تلك الظروف. أكد فهد فيها على استغلال بريطانيا ظروف الحرب للتدخل والسيطرة على شؤون الدول وعلى مرافق البلاد الحيوية، كما أشار إلى "التنافس الاستعماري في بلادنا بين الإنكليز والأمريكان للاستحواذ على مصادر نفطية في البلاد العربية وللدفاع عن الصهيونية في سعيهم للتفرقة بين القوميتين الرئيسيتين العربية والكردية". وخلص فهد في تقريره الداخلي إلى: "إن الواجب الوطني أيها الرفاق يلقي علينا مسؤولية عظمى، مسؤولية تنبيه شعبنا إلى محاولات المستعمرين لتثبيت النفوذ الاستعماري في بلادنا، وإلى الدسائس الاستعمارية الرامية إلى تقسيم شعبنا وتفريقه.. إن الواجب يدعونا أيها الرفاق إلى العمل السريع على تنظيم شعبنا وتجنيد قواه لإحباط محاولات الذين يريدون تفريق شعبنا".(ص116- 117). وبعد انتهاء أعمال المؤتمر نشط الحزب في الميادين المختلفة من الكفاح الوطني، في توسيع التنظيم الحزبي وانتشاره في اغلب المدن العراقية والنقابات العمالية والتجمعات الطلابية والفلاحية والعسكرية والنسائية والإضرابات العمالية والاحتجاجات الشعبية، وصولا إلى تقديم إجازة رسمية لحزب باسم حزب التحرر الوطني كواجهة علنية له، فضلا عن تأسيس منظمة عصبة مكافحة الصهيونية، وإصدار صحف أو مشاركة في تحرير أخرى وإنشاء دار الحكمة للنشر والدعوة إلى الجبهة الوطنية وتنسيق نضال القوى الديمقراطية. وشهدت للحزب ولفهد ودوره ومواقفه في العراق طبيعة الظروف السياسية والهجمة الرجعية الداخلية والخارجية عليه وعلى الحركة الوطنية العراقية، إثر فترة من الانفراج السياسي والتحرري بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
يتوسع المؤلف في شرح نشاطات فهد في قيادته لاقتحام الحزب ميادين العمل السياسي والوطني، واستعراض قدراته الفكرية والثقافية والتنظيمية، مسلطا ضوء على كتابه عن البطالة وأسبابها، الذي مازال أو اصبح الآن اكثر أهمية ومصداقية عن الوضع في العراق. حيث حلل فيه ظاهرة البطالة ودور السيطرة الأجنبية، العلة الرئيسة وراءها، ونص: "لو استثمرت ثروات النفط بأمانة ولصالح النفع العام الوطني لوظفت صناعة النفط جميع الأيدي العاملة في المدن والريف، لكن نفط العراق محتكر من قبل مجموعة "ديتردنك" النفطية" وكذلك أشار إلى الأسباب الأخرى واهمها عدم تطور الصناعة وهذا ناتج عن السياسة البريطانية الاستعمارية التي تسيّر الإدارات لمنع تصنيع القطر، والنظام شبه الإقطاعي السائد في الريف وغيرها من العوامل المعلومة.
إثر إرتفاع المد الوطني والقومي العربي جرت المطالبة بتغيير المعاهدة العراقية البريطانية وجعلها سياسية فقط، مما أثار السفارة البريطانية ورجالات البلاط مندفعين إلى التحرك المضاد والعمل على تكبيل الحركة الوطنية باتفاقات أخرى مع المستعمرين مثل مشروع المعاهدة العراقية التركية ومحاولات إبعاد العراق عن محيطه العربي وإيجاد المسوغات لبقاء قوات الاحتلال البريطانية. وفي سبيل ذلك سعى الحزب إلى عدم ضياع الفرص الوطنية داعيا إلى تطوير العمل الجبهوي ردا على الهجوم الواضح من السفارة البريطانية واتباعها في الحكومة العراقية، والهجوم الإمبريالي الخارجي على الشعب الفلسطيني والعالم العربي عموما، فعمل بكل جهوده إلى المشاركة في لجان الدفاع عن الشعب الفلسطيني، ومجابهة حملات القمع والاعتقال وقيادة الإضرابات العمالية والتحركات الشعبية. معززا ذلك في مذكرات تحريرية، منها المذكرة التي بعثها فهد إلى الأحزاب الوطنية ودعاها إلى الكفاح في سبيل استكمال استقلال العراق وتعزيز سيادته الوطنية ومن اجل الحريات الديمقراطية وتثبيتها وتوسيعها والتعاون العربي ضد المستعمرين. ( نصها في ص 213- 215).
الكارثة.. لقد وقعت الواقعة
ويصل المؤلف إلى الفصل الثالث عشر ويعنونه بالكارثة، وهي نجاح الهجمة الرجعية في اعتقال فهد والعديد من القيادات والكوادر الشيوعية والديمقراطية. ففي عصر يوم 18/1/1947 اعتقل فهد وزكي محمد بسيم وابراهيم ناجي وعزيز عبد الهادي ويعقوب اسحيق والسيدة أيلين، زوجة إبراهيم ناجي صاحب الدار التي كانوا فيها. وكان قد اعتقل فجر ذلك اليوم جميع أعضاء الهيئة المؤسسة لحزب التحرر الوطني وأشخاص لا صلة لهم بالحزب. ويختم المؤلف الباب الثالث من كتابه عن الحياة في السجن، إلى يوم اختطاف القيادة وفي المقدمة فهد من سجن الكوت إلى سجن ببغداد لتنفيذ حكم الإعدام بها يوم 14/ 2/1949. وفي هذا الباب تفاصيل كثيرة عن السجن وعن حياة فهد فيه وعن الرسائل المتبادلة بينه وقيادة الحزب وسلوك فهد القيادي وفي الرسائل، إضافة إلى المواقف المشهودة لفهد تتضح قدراته الفكرية والقيادية حيث يوضح وهو في السجن إلى القيادات الميدانية أساليب النضال وقيادة الشارع وتوجيهات العمل السياسي والعمل الوطني، وهي بمجملها تأكيد على الكثير مما ذهب إليه المؤلف عن فهد ودوره وكفاحه الوطني ومعرفة العدو الطبقي والسياسي بها وجهوده الكبيرة في التخلص منه وحرمان الشعب العراقي والحركة العمالية والوطنية من شخصية من هذا المعيار بكل المعاني. والخلاصة أن الكتاب والكاتب قدما صورة بارزة وواقعية لمناضل حقيقي ومثقف عضوي وقائد فعلي لحزب وحركة وشعب في ظروف ليست يسيرة ومنعرجات حادة في صفحات التاريخ الوطني. وقد يكون، وهذا ما لم يشر إليه المؤلف، إصرار الحكومة البريطانية على استمرار غلق ملفها عن فهد بخلاف قواعدها في النشر وطول الفترة الزمنية عليها، إشارة أخرى وتأكيدا مهما على مكانة فهد وقيادته، ودورها في استشهاده.