الخميس 20/11/2008
حصلت الإدارة الأمريكية على مسعاها قانونيا، كانت "قلقة جدا" على بقاء قواتها وفق قرار مجلس الأمن ولابد من سند قانوني، لا يهمها اسمه: معاهدة، اتفاقية وضع القوات، ورقة مباديء أو تفاهم، سحب القوات... وتم لها ما أرادت. صوتت الحكومة العراقية على اتفاقية أسمها سحب القوات بعد أن كان إسمها مختصرا من الإنجليزية (صوفا)!. تنص على الإتفاق بين دولتين مستقلتين متكافئتين ذواتي سيادة!!. المهم الاتفاقية تقول بفقرة من بنودها تجميع القوات الأمريكية في مساحات لها (لماذا لا تسمى باسمها العسكري الصريح: قواعد عسكرية في العراق، مبنية على الطراز الأمريكي، بما فيه وسائل الراحة!) في موعد لا يتعدى (انتباه رجاءً) 30 حزيران/ يونيو 2009، ومن ثم في فقرة سحبها نهائيا من العراق في تاريخ 31/ 12/ 2011. وفي كل الأحوال الاتفاقية المنشورة مثلها مثل الدستور المكتوب حمالة اوجه، ومليئة بالألغام التي قد يطالب بتعديلها بعد حين لغموض تفسيراتها المتعددة أو لتناقضات بين بنودها. ولكن هناك من روّج لها وكأنها زواج متعة، وليست اتفاقية بين دولة غازية ومعتدية ومرتكبة لجرائم حرب باعتراف مؤسسات القانون الدولي وحقوق الإنسان العالمية وبلد وشعب معتدى عليهما وتحت الاحتلال عرفا. لهذا تتحول الاتفاقية إلى اتفاقية متعة محددة بأجل، وبعٌدةٍ زمنية حسب التعاليم المرعية في البيت الأبيض والمنطقة الخضراء.
بالتأكيد لا يمكن قبول بقاء قوات الاحتلال إلى أمد طويل، ومن أجل التخلص من الاحتلال فالمطلوب إخراجها بأقرب الآجال، وهذا لا يحصل بالتمني وبيانات الحفلات المتلفزة. إذ لابد من تعزيز الإرادة الوطنية وتنويع أساليب الكفاح التحريرية، ومنها فرض جدولة الانسحاب، كما أعلنت أطراف عدة، وإذا كانت الاتفاقية قد أشارت بالتواريخ فأنها من الناحية النظرية استجابت لبعض هذه المطالب، ولكنها تركت الباب مشرعا لغيرها، ضامنة للاحتلال إمكانيات الالتفاف عليها. دون اعتبار من دروس التاريخ والإحتلال وتكرار الأحداث ومؤامرات القوى المتنفذة فيها.. ودون اهتمام بالكثير من الأسئلة المحيرة حول التزام الضمانات وقيودها، وكيفية تطبيقها وإلزام الطرف الآخر بها ومن هو الحكم بخلافها.
قبل أن يجف حبر الأقلام التي وقعت مسودة الاتفاقية الأمنية وعطر المصافحات والابتسامات وادعاءات المطبلين لتحديد موعد الانسحاب النهائي للقوات الأمريكية من العراق, أبدى الأدميرال مايكل مولن رئيس هيئة الأركان المشتركة, وعدد من القيادات العسكرية، رفضهم تحديد موعد لسحب جميع القوات الأمريكية بحلول نهاية 2011 مسقطين أو ملغين أحد أهم بنود الاتفاقية. وكعادة المستعمرين يرهنون انسحاب قواتهم من العراق بالظروف الميدانية, مع التحذير من أن الأوضاع الأمنية قد تتغير خلال هذه الفترة. وأوضح مايكل مولن أنه يتفق مع آخرين مثل قائد القوات الأمريكية في العراق الجنرال راي أوديرنو وقائد القيادة الوسطى الجنرال ديفيد بترايوس, على أن الانسحاب الأمريكي يجب أن يستند إلى الأوضاع الأمنية وليس إلى جداول زمنية, معارضا أهم ما ذكر في نصوصها, قائلا إن مغادرة بغداد والموصل ستكون تحديا كبيرا, على حد تعبيره. وحول تعهد الرئيس الأمريكي المنتخب باراك أوباما بسحب القوات الأمريكية من العراق بحلول منتصف2010, قال مولن إن أوباما أعلن أيضا أنه سيطلب مشورة هيئة الأركان المشتركة قبل أن يتخذ أية قرارات (أخبار يوم 18/11/2008). فعن أية جداول زمنية وتواريخ محددة جرى التوقيع إذن، وماذا يفهم من هذه الأقوال العسكرية؟.
معروف أن الولايات المتحدة الأمريكية حين قررت العدوان على العراق وغزوه واحتلاله لم تنتظر سندا قانونيا ولا قرارا دوليا واكتفت برعونتها وغطرستها في فرض مخططاتها الحربية وأهدافها الإمبراطورية. فلماذا تصر وتلح على معاهدة؟، (هل هي مهمة إلى هذه الدرجة؟) لا تعرض على مجلس الأمن ولا تناقش في الكونغرس الأمريكي وتعطي الرئيس القادم ورقة بيضاء أمريكية الطابع والمحتوى. أم أن لها دوافعها الاخرى؟!.
وصف اللورد بينجام، أحد أبرز القضاة البريطانيين، غزو العراق عام 2003 بانتهاك خطير للقانون الدولي متهما بريطانيا والولايات المتحدة بالتصرف مثل "شرطي العالم". كما نشرت صحيفة الغارديان يوم 18/11/2008 قوله وأشارت إلى معارضته بشدة لما ذهب إليه النائب العام البريطاني السابق اللورد غولدسميث من أن غزو العراق كان قانونياً. ونقلت عنه "لم يكن من الواضح أن العراق فشل في الاستجابة بصورة تبرر اللجوء إلى القوة"، وأن الحكومات ملزمة بالقانون الدولي مثلما هي مقيدة بقوانينها الديمقراطية. ووفقاً للغارديان قال القاضي بينجام مخاطباً المعهد البريطاني للقانون الدولي والمقارن "إذا لم أكن مخطئاً، فإن غزو العراق من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا ودول أخرى لم يكن بتخويل من مجلس الأمن، ... وكان بالطبع انتهاكا خطيرا للقانون الدولي وحكم القانون".
رغم كل هذه التأكيدات اعتبر وزير عراقي ما وقعه مع المحتل ممثلا بسفير البيت الأبيض يوما تاريخيا في علاقات البلدين، مثلما اعتبر غيره يوم الاحتلال عيدا له ولأمثاله. ولم يتعظ كثيرون من تاريخ الاحتلال والاستعمار، والقضية الأخطر فيما تم لحد الآن، وما غطي فيه دخان التوقيع والمصادقة وجلسات البرلمان هو ما بعد التوقيع والمصادقة، التي أخفت تحتها ما سمي بالإطار الاستراتيجي طويل الأمد، الذي يشمل الجوانب الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية،.. الأمر الذي سيكبل العراق وثرواته لآجال مفتوحة ولا مواعيد لها مقررة مثل صوفا!. ومهما صار من تنويعات وتصريحات وبيانات فان المحتل لا عهد له ولا مصداقية، وما طرح للانتخابات غير ما يخطط له البيت الأبيض أو البنتاغون، والأيام حبلى.
كاتب صحافي وباحث سياسي (دكتوراه فلسفة في التاريخ العربي).Writer Journalist and Researcher - PhD in Arab History صدرت له الكتب التالية: العراق: صفحات من التاريخ السياسي، فن الأنتفاضة، الحركة العمالية في العراق، الجبال .. يوميات نصير في كردستان ، لا للحرب.. خطط الغزو ..، ما يبقى.. صور وكتب، لا للاحتلال.. اسقاط التمثال وسقوط المثال بالعراق، واشنطن- لندن.. احتلال بغداد، بشت آشان.. فصيل الاعلام، العراق: صراع الارادات، المطرقة والمنجل في العراق، زمن الغضب العربي، مقالات الأخبار، ما هو داعش؟