الثلاثاء، 28 أكتوبر 2008

مذكرات باقر إبراهيم.. بحث مستمر عن التغيير


صدرت مذكرات السياسي العراقي باقر إبراهيم، (مواليد 22 تموز/ يوليو 1932) عضو قيادة الحزب الشيوعي العراقي، مسئول التنظيم الحزبي لأكثر من ثلاثة عقود من تاريخ الحزب والنضال السياسي في العراق قبل فترة عن دار الطليعة للطباعة والنشر ببيروت. نشرها بعد صمت معهود، وكتبها بعد إلحاح منشود، وأودعها القراء بعد طول أناة وعسر مداراة وجزالة انتباه لما يريد أن يبني للمستقبل ويشيد للعزم ويقوي الإرادة، وما كان منه إلا أن ينتخب من صفحات النضال وسجلات الأحوال وبيانات الآمال ويرتبها بأكثر من أربعمائة وتسعين صفحة من القطع الكبير.
وهو في عمره النضالي الطويل، حيث انتسب إلى الحزب وهو ابن السادسة عشرة من العمر، كما انتخب إلى اللجنة المركزية وله من العمر سبعة وعشرون عاما، عايش محطات ووقفات متنوعة في المسيرة والأداء وواجه فيها ما لحقه من المعاناة والانتكاسات وتلمس منها كعادته كثيرا من الدروس والعبر، التي أراد من فيضها أن يلخص للقارئ في مذكراته سطورا مما مرت عليه شخصيا من محن وعثرات ومكاسب ونجاحات، اشترك هو، بحكم موقعه وعطائه، وغيره معه في تكوينها أو في مكابدتها وتحمل قسوتها وقلة تدبيرها أو فرحتها وشظف دفعها.
وعقود الزمن من تاريخ العراق المعاصر التي عاشها باقر إبراهيم مملوءة بالتعقيدات ومتميزة بالصعوبات، حيث تنوعت المهمات وتسابقت الأحداث والسنوات، من نضال سري وسجون وهراوات العهود الملكية إلى علنية وصراعات الدم وتكنولوجيا تعذيب العهود الجمهورية. ومن العمل بين أحضان الشعب إلى التنمر في فصائل أنصار مسلحين ومعزولين في قمم شاهقة من الجبال أو في جحور وأوكار مستورة بأغصان العداء وضيق الأفق وغوايات الانتقام. ومن التمنطق بالعمل الجبهوي والصراع الفكري ووحدة الأضداد إلى امتشاق السلاح والهجرة إلى الأقطاب والبلدان التي وصفتها وثائق الحزب، المرشد والدليل للعضو والزميل، بالإمبريالية والاستعمارية وأعداء الطبقة العاملة وحركات التحرر الوطني.
ولأنها قصة حزب وشعب ووطن، يتعرض كله هذه الأيام إلى امتحانات اكثر قسوة وابلغ صمتا واشد تجاذبا وتنافرا في آن. وبعد انسداد آفاق وانغلاق سبل وسقوط أوهام وانطفاء همم وبعد خراب العراق بحروب الداخل والخارج، وانتهاء السند والصديق الصدوق لم تعد الإشارات كافية لالتقاط الأنفاس أو استزادة الحواس. ولابد من المراجعة الأمينة والمكاشفة المطلوبة والمحاسبة النزيهة والنقد البناء والمعالجة الأساسية.
ومذكرات باقر إبراهيم واحدة من بين عديد من الكتب التي أصدرها رفاقه في قيادة الحزب سابقا، تجرأوا وقالوا ما عندهم، صوابا أو خطأ، صدقا أو دجلا، مما كان أشبه بالمحرم واقرب إلى الممنوع وابعد عن تمجيد الذات وتعظيم الأداة، ونسيان أو إغفال الجزاء أو الإجراء والابتعاد عن محاسبة أو نقد الذات، في إعطاء شهادات وإشارات عن الأخطاء والخطايا، وعن التحولات والتطورات، وعن البطولات والامتيازات، أو تلك التي تأتى بمعنى الاستذكار والتذكر السليم والتسامح والتسامي الحكيم، دون الوصول الى الاعتراف والكشف والتعميم.
والمؤلف مدرك انه لا يكتب تاريخا وحسب وان المسئولية فيما سجله ونشره ليست حملا ثقيلا قد لا يحمله بعير فقط، ولمثله لا تمر كتابته مرور الكرام، وهو المقيم بالسويد، قريبا من أبواب الله الشمالية، التي صارت هي وغيرها، بليلة وضحاها دارا للسلام وللإسلام بعد أن كانت جزء من دار للحرب ولأحفاد الفايكنغ، الذين كانوا قراصنة وتجار حروب وسلع لا يعرفون لها طعما أو لونا. وكتاباته تمحص وتدقق، وتدرس وتحاكم، وتناقش وتكثر حولها الأقاويل والتفسيرات والتأويلات وتتربص فيها ما لم يكن ضمنها وما لم يقصدها أو يضمرها.
ولهذا اعترف مقدما أن ما يكتبه اعتمد أساسا على الذاكرة العفوية وأنها تضعف بتأثير عوامل الزمان والإرهاق والانقطاع والملاحقات والانتقالات والهجرات ومن ثم الاغتراب. ولابد بعد ذلك كله من الانتقاء والاختيار ومن الوعد بالكتابة الموسعة والتفاصيل المطلوبة والأحكام التاريخية في أيام أصفى وأوقات أغنى، مختصرا الجهد وما حملته صفحات الكتاب بأنها اسهامة متواضعة في كتابة التاريخ، ولم يعتبرها غيره كذلك.
ولكنه النزيه في حياته ومواقفه والصادق مع نفسه بنضاله وعمله وكتابته، فيطالب هو أيضا عند الحكم على الأحداث توفير اكبر قدر من العدالة والموضوعية لأناس تلك الأحداث في محكمة التاريخ، خصوصا للموتى ولمن فقدوا القدرة على الدفاع عن الحقيقة وعن أنفسهم. وهو يقدر أن الكثيرين ممن انتظروا مذكراته يريدون منها كشفا أوسع مما حوته واشمل مما ذكرته وأحدّ تقييما مما انطوت عليه، وهو يصر عند تدوين بعض الآراء والانطباعات على تجنب إطلاق الأحكام، وعدم النظر إلى المسيرة بصورة اخفاقات وملابسات فقط، بل هي عنده مسيرة جهد بشري مضن وخلاق. وهذا صحيح ومطلوب مثل الكشف والشهادة لما هو مهم وأساسي في تلك الحقبة وتطوراتها وانعطافاتها، ووضع الكثير من النقاط على الكثير من الحروف المفقودة أو المتهرب منها رغبة أو خشية، إهمالا أو تنصلا.
ومنذ أن شرع بمشروع الكتابة سأل نفسه: لماذا اكتب مذكراتي؟ وكتب: إن كتابة المذكرات هي من وجهة نظري مواصلة لأداء الواجب الذي دفعني للنشاط الاجتماعي وللانتساب السياسي إلى حزب معين، أي الدوافع الوطنية والاجتماعية والإنسانية، فالكتابة إذن مواصلة لتلك الدوافع.
ولأنها كذلك وكاتبها باقر إبراهيم فهي سجل منشود، وكتابة تفكير ومسئولية فكرية وتاريخية واجتماعية، لا للذكر الطيب وحسب، مثلما أشار، وإنما لتأشيرة الأصابع على الجراح وكشف المستور المعلوم، على الأقل من اضعف الإيمان، والإشارة بالتلميح للأكثر مما فيها. وما افتقد منها قد يكون مهما وجديا كالذي ورد فيها، للتذكر والتاريخ، وللتوضيح والتدقيق. إذ ينبغي أو لابد من أن تحمل اكثر من ذلك مما لم يخل بمصداقية المشترك والضمير، ومحاكمتها مع مرور الزمن وما سطرته من موضوعاتها كمنطلقات لمذكرات متواصلة مع القضية التي أعطاها صاحبها ما مضى من عمره وما زال مدركا أن البحث التاريخي المصاحب للمذكرات عملية لا حدود ولا نهاية لها، فهي ستستمر بأمل تحقيق الوعد والذكر الطيب لكاتبها وللفاعلين بفصولها أيضا فيما بعد. لان عالمنا العربي ما زال لا يحفظ وثيقة ولا يحرص على الأمانة لأبنائه حتى ولو بعد قرن أو دهر، بينما كما صرنا نعي ونعرف أن أعداء شعوبنا وأوطاننا يتابعون قضايانا أولا بأول، ويعرفون عنا اكثر مما نعرف عن أحداثنا وخططنا وآمالنا الموءودة من قبلهم وبأيدينا.
وقد قسم كتابتها على فصول قصيرة بأرقام متسلسلة بلغت خمسة وثمانين، ضمت بدايات عن النشأة الأولى، المدينة الأولى، الكوفة، والعائلة، الوالدين والاخوة والأخوات وأبناء الحارة، المدرسة والكتاب، الزقاق والنهر، رحلة الطفولة السريعة إلى عالم الخرائط السياسية والصراعات والهموم الكبيرة لشاب تتقدم به السنوات لتحمل أعباء اكبر واهتمامات وطنية واجتماعية وسياسية فكرية. فيدلف إلى الانتساب الحزبي والقراءات الأولى لمصادر التثقيف الشيوعي، من قصص ودواوين شعر وكتب تاريخ وفلسفة. يذكر " مررنا بانتقالات كبيرة في نوع الأدب الذي نقرأ: قبل حلقة الأصدقاء كانت القراءات تتجه نحو بعض مواد التاريخ، عن البطولات المثيرة لسيف بن ذي يزن، والمقداد بن الأسود الكندي وفتح خيبر ثم اتجهت نحو أدب اكثر أهمية ومعاصرة كمطالعة مجلات "الفجر الجديد" المصرية و"الهاتف" و"المثل العليا" النجفيتين ثم تحولت المطالعات نحو الأدب الماركسي ومنشورات العصبة ودار الحكمة وحزب التحرر الوطني وقصة "الأم" لمكسيم غوركي، وكان شعر الجواهري والرصافي غذاء لا يمكن الاستغناء عنه، قراءة وحفظا، وتداول كثرة من الحزبيين قصيدة "أين حقي؟" لمحمد صالح بحر العلوم، مكتوبة بخط اليد، أو حفظوها". (ص34-35).
وبعد الانتساب بدأت صفحات العمل السياسي وعواقبه، في ظروف العمل السري والسجون والمحاكمات والمطاردات والملاحقات، والتظاهرات وتحشيد الأعضاء والجماهير ومتابعة التطورات والتحولات وطنيا وعربيا وعالميا، من التضامن مع انتفاضات الشعوب العربية إلى الابتهاج بانتصارات الثورات وحركات التحرر العالمي في مختلف القارات.
وفي الفصل العاشر عنوان: من حياة السجون كتب فيه: حوكمت نهاية عام 1952، أمام المجلس العرفي العسكري بموجب ثلاث دعاوى منفصلة. وسجنت لاثنتين منها. فكانت الزيارة الأولى لسجن بغداد المركزي، بعد حوالي الثلاثة اشهر من التجوال في مواقف الشرطة في الكوفة والنجف وكربلاء ومعتقل الرستمية في بغداد (ص47). وفي هذا الفصل كتب عن السجون وقضايا التثقيف الحزبي فيها، بدء من النظام الداخلي للحزب وبرنامجه، وقضايا متنوعة، فكرية وأدبية وتاريخية، والى استذكار المناسبات الوطنية والأممية، ورغم انشغالات الحزب في تلك الفترة بالصراع الداخلي الذي أدى إلى انشقاق كبير وتكوين تنظيم "راية الشغيلة"، أقامت منظمة السجن حفلا تابينيا عن موت ستالين، ألقيت فيه كلمات عبرت عن الحزن واستلهام مأثرته، ومن بينها قصيدة للشاعر حسين مردان التي ذكر مطلعها:
الصمت ران على الوجود كأنما لم يبق حي في الطبيعة ينطق
وواصل الكتابة عن الانشقاق ومن ثم التوحيد بعد سنوات وعودة أغلبية التنظيم إلى صفوف الحزب، وانتقل مشيرا إلى الأيام العاصفة في حياة السجناء والأحداث السياسية في العراق، من خلال المجازر التي نظمت للسجناء السياسيين، وكان من بين سجناء سجن الكوت، الذي نقل منه إلى سجن بعقوبة بعد أن انتهت مجزرته.
في السجن الأخير صدرت نشرة جدارية اسمها " السجين الثوري" بحثت في جوانب ثقافية مختلفة وخاصة ما يتعلق بكتابة تاريخ الحزب، اعتبرت مصدرا مهما للكثير من المؤرخين، في مقدمتهم الباحث حنا بطاطو، الذي ألف كتابا عن تاريخ العراق المعاصر. " وفي هذه السنة (1954) تسنى لمسئولينا الحزبيين في السجن أن ينظموا ثلاث حلقات لدراسة اللغة الإنكليزية. كنت أنا في الحلقة الأولى الأكثر تقدما، ويديرها المرحوم زكي خيري. وقد ساعدني ذلك على استعادة وتطوير معارفي بهذه اللغة عن طريق الممارسة، حينما قمنا بترجمة أحد فصول كتاب القائد الشيوعي الصيني ليو شاوشي، واحد فصول كتاب" ثلاثون عاما من تاريخ الحزب الشيوعي الصيني". (ص63). وثبت الكاتب من تجربته في السجون والعمل الحزبي داخلها الكثير ارتباطا بتطورات الأحداث خارج السجن أيضا، منتقلا بين صفحاتها المشهودة، كانتفاضات 1952 و1956، ونجاحات الحزب في تطوير أساليب نضاله وتوسيع نشاطاته وبروزه كقوة رئيسية في الحركة الوطنية العراقية، وصولا إلى ثورة 14 تموز/ يوليو 1958.
كتب في الفصل 16 عنها: "بعد أيام من دخولي السجن للمرة الثانية، تسلمنا بطريقة حذرة جدا في سجن بعقوبة، التي ضمتني وعدنان عباس، آخر عدد من جريد الحزب المركزية "اتحاد الشعب" الصادر في أواخر أيار/ مايو 1958، وكان يحوي مقالة على الصفحة الأولى، بعنوان "الحكم الأسود اقتربت نهايته"، ورد في المقالة استنتاج يقول "إن حكم الخونة بات على شفا الانهيار" (ص81). وفعلا تحققت الثورة وأطلق سراح المعتقلين ولم يطل عمر السجن والسجان، وحالما أذيع اسمه كان "أخي دكتور حيدر إبراهيم ينتظرني بسيارته ليأخذني إلى مدينة المدحتية، حيث يعمل طبيبا فيها، وأسفت حينما علمت بعد مغادرتنا السجن أن سيارة باص كبيرة كانت تحمل جمهورا من مدينة الكوفة وصلت السجن لاستقبالي، لكني التقيتهم فيما بعد… وفي آب/ أغسطس 1958 وفي يوم خروجي من السجن، تجولت في بغداد لبضع ساعات وشهدت انطلاقة وفرحة الجماهير، كما شهدت بدء الخلافات، ثم الخصومة بين الأحزاب الوطنية حول قضية الوحدة والاتحاد مع الجمهورية العربية المتحدة، المكونة من مصر وسوريا… فكانت الأحزاب القومية تريد الأولى والشيوعيون والديمقراطيون طالبوا بالثاني" (ص82).
هذه الإشارة للصراعات والخلافات واجهها أثناء قيادته للمنظمات الحزبية في منطقة الفرات الأوسط، سواء على صعيد التنظيم الداخلي أو العمل الوطني، وبعد عام تقريبا رشح إلى اللجنة المركزية وانتقل إلى بغداد، بادئا عمله القيادي في مركز الحزب "بحضور الاجتماع الموسع للجنة المركزية الذي عقد في الجو المتوتر الذي ساد البلاد بعد احتفالات الذكرى الأولى للثورة وأحداث كركوك، وخطاب قاسم في كنيسة مار يوسف في 20 تموز/ يوليو، وكانت قيادة الحزب قد وضعت المنظمات في حالة "الإنذار" كما حدثت عدة مصادمات دموية في الهندية والمسيب والسماوة وغيرها (ص84). وسجل انطباعاته عن أول اجتماع للقيادة يحضره، كان مثيرا وعاصفا بمناقشاته والتناقضات التي برزت في قمة القيادة، الذي اصدر النقد الذاتي المعروف، والذي احدث ردة فعل، رأى أن سببها التحول العلني والمفاجئ في التثقيف السياسي للجماهير، دون أي تمهيد فكري ونفسي، وهما ضروريان، واستنادا إلى فهم جامد لمقولة صحيحة في الأدب الماركسي – اللينيني من أن الحزب الجدي هو الذي ينتقد أخطاءه علنا.
هذه الصورة التي سجلها تشرح أسلوب المؤلف التثقيفي وقناعاته الفكرية التي ترسخت لديه أثناء عمله وحتى كتابة هذه المذكرات، عملا بالتريث والعمل الدؤوب مع الجماهير لخلق التحول والنقلات في نشاطها العام، ومراقبة التغيرات والحكم عليها، مما قد يثير أسئلة أخرى عن طبيعة العمل السياسي في بلاد مثل العراق، وما أدت إليه مصائر العمل السياسي فيها. وهو في تثبيت هذه الصفحات لا يسترجع ماض ولى وانما يريد الإشارة إلى تبدل الأحوال وتغير المآل، ويرسم ظلالا لتناقضات الفترات السياسية، وحتى الممارسات والتطبيقات العملية للأفكار والنظريات والانطباعات التي تتولد منها، في أحداثها ووقائعها أو في دروسها وعبرها، وكذلك في ضرورة التفكير فيها.
ولكنه انتقل بسرعة في هذه الفترة الصاخبة والمهمة من تاريخ الحزب والعراق بإشارات واستنتاجات أشبه بالحكم دون تحليل وقراءة متأنية طويلة لأهمية الفترة ودوره والحزب فيها ومحاكمة الأحداث بعقلية يومنا أيضا، كما ذكر في الصفحة 89 ودراستها من كل جوانبها والإجابة على الأسئلة الكثيرة التي تكاثرت حينها وبعدها واليوم. ومثل هذه الإشارات مهمة لتوضيح الأحداث، من فتوى التحريم إلى الافتراق بين القوى السياسية والتآمر والأحداث العاصفة في عام 1963، كما سماها في عنوان الفصل عنها.
والكاتب عنصر أساسي في إعادة بناء التنظيم الحزبي بعد إعدام قيادته وشن حملات القمع ضد أعضائه والعودة إلى العمل السري والصيانة والاختفاء بالأرياف بعيدا عن قرارات الإرهاب والإعدام والتصفيات الجسدية والمعنوية. ومن خلال تجربته المهمة هذه يمكن الانتباه إلى قدرات الحزب على التجدد والانبثاق مرة أخرى رغم شراسة الهجوم عليه ومحاولات تصفيته، والى إمكاناته في فهم طبيعة هذا الشعب المعطاء الذي أعطى الآلاف من أبنائه وبناته على طريق الحزب والتقدم وبناء العراق وطنا حرا ومنارة مشرقة، ولكن هذه التجربة لا تخلو من منعطفات حادة، يمينا ويسارا، وتموجات الضغوط وتطور الوعي السياسي والثقافي العام لدى كادر وقاعدة الحزب أيضا، من جهة أخرى.
خسر الحزب في عام 1949 قيادته الأولى، فهد ورفاقه، بعد أن حوكموا بالإعدام ونفذ في ساحة عامة ببغداد، وفي عام 1963 خسر مرة أخرى قيادته بنفس الأحكام واشد الصور بشاعة، قيادة سلام عادل ورفاقه الآخرين. وبعد إعادة التنظيم والبناء الحزبي التي اسهم القائد باقر إبراهيم بدور أساسي فيها، وفي رفد الحزب بكوادر جديدة وتطوير أعمال القيادة، ورغم ذلك حدث أوسع انشقاق في الحزب، وضعف دور الحزب في صفوف الحركة الوطنية العراقية، بعد أن كان راس رمحها. وجاءت القيادة الجديدة ببيانات وشعارات زادت الطين بلة دون أن تقدمه أو تسير به نحو شوارع النضال الصحيحة. كتب في ص 133: "كان الاتجاه السياسي الذي تمسك به الحزب واللجنة المركزية عموما، هو الأقرب إلى المعقولية السياسية، والى التصحيح الذي يمكن الحزب من إنضاج تحالف جبهوي جديد يعتمد تعاون الشيوعيين والقوميين العرب والأكراد. لكن التسرع والأخطاء التي رافقت مساعي اللجنة المركزية للسير بهذا الاتجاه الجديد، الضروري، وخاصة عند وضع سياسة اجتماع آب/ أغسطس 1964، جعلته يتعثر ويتراجع من جديد. وذلك عندما عاد الحزب إلى شعار إسقاط النظام، والبحث في الصيغ الملائمة للنضال ضده، والتي اعتمدت كلها أسلوب "الكفاح المسلح"، ابتداء من التقرير المشترك الذي كتبه عزيز الحاج وزكي خيري معا بعنوان: "محاولة لتقييم سياسة حزبنا" إلى الدراسة التي أعدها الرفيق عامر عبد الله، بتأييد فريق صغير من أعضاء القيادة بعنوان: "مساهمة في تقييم سياسة الحزب" والتي روجت لأسلوب الانقلاب العسكري… ثم إلى الدراسة التي وضعها ثلاثة من أعضاء القيادة هم: باقر إبراهيم وكاظم الصفار وجاسم الحلوائي، والتي ردت على الطريقتين بالدعوة لاعتماد استنهاض الجماهير في "انتفاضة شعبية مسلحة". مقيّما ما سبق بالقول: ويمكن القول أن الدراسة الأخيرة، ورغم ابتعادها، هي الأخرى، عن الواقع وممكناته، إلا أنها كانت أكثرها اعتمادا على الموقف الشعبي وأكثرها تطلبا لقيام جبهة وطنية عريضة تقود عملية التغيير في العراق.
ما حصل في تلك الفترة وصولا إلى عودة حزب البعث مرة أخرى للسلطة وضع الحزب أمام مسئولياته التاريخية التي حاول قراءتها في كونفرنسه الثالث في كانون الأول/ ديسمبر 1967، ثم في مؤتمره الثاني عام 1970، فوصف الكاتب انشقاق/ انقسام (القيادة المركزية) في 17 أيلول/ سبتمبر 1967 بالخطير والممتد بكيان الحزب، بعد أن استمر ثلاث سنوات من الصراعات والاستقطابات السياسية والفكرية والتنظيمية، وكانت معالم التدهور في وضع الحزب الداخلي واضحة للعيان. "وإذا لم تكن فرصة للحيلولة دون الانشقاق وإعادة التماسك في الحزب فربما كانت ثمة فرص واضحة لحصره بنطاق ضيق، وبأضرار اقل على الحزب. كانت فترة مواجهة الانشقاق، خاصة في بغداد، التي عدت لتولي مسئولية منظمة الحزب فيها بعد الانشقاق، فترة كفاح عسير ومعاناة مريرة، خاصة لمجموعة الكادر الذي تولى إعادة البناء والتجميع" (ص146).
وقبل انقلاب تموز/ يوليو 1968 حاور حزب البعث العربي الاشتراكي بالعراق الحزب الشيوعي العراقي في لقاء بين احمد حسن البكر ومكرم الطالباني، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، ولكن الحزب الشيوعي تجنب التعاون مع تيار البكر في قيادة حزب البعث، في بداية الأمر، إلا انه عاد وتعامل معه بشكل إيجابي بعد أن استلم السلطة مرة ثانية في تموز/ يوليو 1968، فذكر الكاتب أن سكرتير الحزب عزيز محمد زاره في بيته مستفسرا عن موقفه من الانقلاب. فأجابه: "علينا مراقبة تطورات الوضع، وطرح مطالب لتنفيذ ما تقدمه بيانات الحكومة التي سمعناها توا، وتجنب مهاجمة الانقلاب أو الإعلان عن تأييده. فقال لي عزيز: هذا هو ما فكرت فيه أيضا. ثم التحق بنا مهدي عبد الكريم، الذي كان آنذاك منسبا لعضوية المكتب السياسي، وأيد الرأي الذي توصلنا إليه (ص150).
وفترة عشر سنوات من استيلاء حزب البعث على الحكم إلى خروج معظم قيادة وكوادر وأعضاء الحزب الشيوعي من الوطن واختيار الهجرة اضطرارا وإكراها أو تكتيكا ومعالجة لأوضاع شاذة وتطورات إرهابية وملاحقات تصفية، عاش الحزب فترات متناقضة، بين مد وتحالف إلى الإعدامات ورفع شعار إنهاء وإسقاط النظام، من بناء الاشتراكية معا إلى النظام الفاشي الدكتاتوري. أعدها فيما بعد في تقييم حاول فيه ممارسة النقد الإيجابي دون جلد الذات. وكان باقر عضوا في المكتب السياسي المسئول عن التنظيم والقائد العملي للحزب الشيوعي في هذه الفترة، من التحالف مع حزب البعث والتعاون معه سياسيا إلى الهجرة إلى المنافي بعيدا عن الشعب والوطن، وهو لم يبرح مدافعا عنه في أزماته ومحنه التي عاشها ولما يزل يكابد قسوتها واستحقاقاتها.
وفي هذه الفترة المحرجة والصعبة لم يكتب ما لها وما عليها بشكل تفصيلي ولم يكشف المستور المفضوح من مواقف المتبارين بمدح ذواتهم والمتبجحين بالعنتريات التي ما قتلت يوما ذبابة كما قال الشاعر نزار قباني، ولكنهم استطاعوا الهيمنة على الحزب وسياسته وقادوه إلى حيث هو عليه، في لجة الاختلاف والمنافي والتشظي والانقسامات والابتعاد عن السماوات الأولى وبساتين النخيل وشواطئ الرافدين وحتى الأوكار الأولى. وهنا يتوقف القارئ مستفسرا من الكاتب ومسئوليته في الإضاءة لهذه الفترة وما صاحبها من تحولات وتطورات على مختلف الصعد، تنظيميا وفكريا وعلاقات وطنية ودولية. صحيح انه أشار إليها في فصول أخرى عبر الزيارات واللقاءات العامة أو بين السطور، إلا أنها تبقى بحاجة إلى الكثير من الجهد الفردي والجماعي، خاصة من مسئول أساسي في القرار والسياسة العامة للحزب والوطن.
لقد حقق الحزب في تلك الفترة نهوضا ملموسا ومارس نشاطا شبه علني، ونمت عضويته لتبلغ 75 بالمائة بالقياس إلى اكبر نمو شهدته عضويته في تاريخه، أي في السنوات الأربع التي تلت انتصار ثورة 14 تموز/ يوليو 1958. وحقق الحزب وفق سياسة تنظيمية مرسومة نموا نوعيا جيدا، حسبما كتب المؤلف في الفصل 27، وشمل ذلك رفع الأعداد النظري والمستوى السياسي لكادر الحزب والتطور الموزون للنمو العددي وتحسين التركيب الطبقي في الحزب وبين كوادره حيث بلغت نسبة العمال والكادحين أعلى نسبة يبلغها. وبالتأكيد أثرت هذه السياسة على سياسة السلطة في إعطاء الحلول الصحيحة للقضايا الوطنية والقومية وفي تحقيق منجزات أدركتها الجماهير الشعبية، ومن جانب آخر كانت موضع قلق الدوائر الإمبريالية والرجعية في المنطقة.
وبعد أن انتهى عرس الجبهة الوطنية والقومية التقدمية، كما كانت تسمى، وبدأت الحملات التنكيلية بأعضاء الحزب وكوادره من جديد من أواسط عام 1978 شخص الحزب تدهور الوضع العام وانفراط التحالف عمليا، وضرورة تحديد مهمات عمل سياسي وتنظيمي بشكل آخر ليصون الحزب نفسه ويعيد النظر بمواقفه ونشاطاته، وحتى هذه الإجراءات الضرورية والاضطرارية أنجزت في ظروف العجلة والمفاجأة والقلق والهلع التي أثرت على تطبيقاتها السليمة وخلقت بلبلة واهتزازات في الحالة المعنوية وإمكانات المجابهة. ويقيّم الكاتب الفترة بالأسطر التالية:" يمكن تمييز فترة عمل الحزب العلني بين السنوات 1973 – 1978 بأنها كانت على درجة متطورة نسبيا عن تجربة الصحافة العلنية ومقراتها التي أعقبت ثورة 14 تموز/ يوليو 1958 وكانت لفترة قصيرة جدا. إن الظهور العلني الأخير، كان له، ولصحافة الحزب العلنية، آثاره الإيجابية الواضحة في أداء المهمات السياسية، وفي التأثير الجماهيري، وكانت النواقص والأخطاء موجودة بالطبع، لكنها كانت الجانب الثانوي في العمل" (ص159).
كتب في الفصول الثلاثة 30 و31 و32 عن الأيام الأخيرة له ببغداد بقيادة عملية "الانسحاب" والتهيؤ للهجرة، بعد أن ترك معظم القادة الميدان، وشاركهم في أول اجتماع لقيادة الحزب في المهجر، أعلن فيه الانتقال إلى معارضة النظام والعمل على إسقاطه. وهناك اكتشف أن القيادة الحزبية في المهجر ليست بيد الأعضاء المنتخبين لها في المؤتمر الثالث، وإنما بيد أعضاء قيادة منظمة بيروت التي تحولت إلى المركز والموجه لسياسة الحزب وإدارته. وبدأت نذر الصراعات الخفية للتفجر والاستقطابات من جديد داخل صفوف الحزب وهو في المهجر والمنافي العديدة. وفي المهجر بدأت جولة جديدة في إعداد الحزب والتهيئة لسياسة سليمة إلا أن مسارات أخرى أخذت تفرض نفسها وتسحب الحزب إلى اتجاهاتها، ولم تعد اجتماعات اللجنة المركزية بقادرة على قيادة عمل الحزب وإدارة مهماته ونشاطاته، حيث أضيفت أسماء جديدة للمكتب السياسي أدارت هي بالتنسيق مع سكرتير الحزب دفته، وأحدثت أشرعة متعددة وانقسامات واتهامات لا يحتاجها الحزب ووضعه في المهجر، مما قاد باقر إبراهيم إلى أن يكتب: "ويكفي أن أقول إن عزيز كان في مقدمة أربعة مسئولين رئيسين عن تدهور أوضاع الحزب وهم إلى جانب عزيز: زكي خيري وكريم احمد وعبد الرزاق الصافي. تتبدى مسئولية هؤلاء الأربعة الأولى، كونهم سهلوا ومهدوا لهيمنة راس المافيا على إعلام وأموال الحزب، ثم على قيادته، وأخيرا سرقة وطنيته. بعد عشرين سنة من التعاون الطيب بوجه عام، على مستوى القيادة، مع عزيز محمد والآخرين، أي في أواسط الثمانينات، كان علي أن ابدأ النضال المكشوف ضد أساليب تلك القيادة، ثم انفصل عنها" (ص133).
لم يبدأ النضال ذلك وظل ضمن إطار القيادة حتى انفجار الأوضاع في المؤتمر الرابع للحزب، بإلغاء عضوية نصف القيادة الحزبية من قبل النصف الآخر، حسب تصريح سكرتير اللجنة المركزية للحزب عزيز محمد، وفعلا حدث ذلك، وكأنها عملية انقلابية او مبيتة مسبقا وبطريقة لا تخلو من روح انتقام وضغينة واندفاعات جوفاء قادت الحزب إلى معارك جانبية لم يكن مؤهلا لها ولا خدمته أو طورت من عمله. فأضافت هذه الممارسات الانقلابية والتنكيلية مسئولية جديدة للقائد الشيوعي باقر إبراهيم وكوادر وأعضاء الحزب الذين وجدوا أنفسهم خارجه بقرارات سلطوية وأساليب متنكرة لكل التضحيات والحرص والتاريخ النضالي.
وقع في مذكرة اعتراضية إلى قيادة الحزب من كادر في القيادة وعدد من أعضاء اللجنة المركزية الذين أخرجوا منها وعدد من كادر الحزب شرحت صور التدهور المريع في أساليب عمل الحزب ونشاطه ومنظماته وابتعاد أعضاء كثيرين منه وتشكل تنظيمات خارجه وطفح عقلية وإجراءات التمييز القومي، والتصرفات الغريبة عن مثل وأخلاق الشيوعيين العراقيين أو المبادئ الماركسية اللينينية. هذا إضافة إلى قيام السكرتير بأفعال مخالفة لنظام الحزب الداخلي ومبادئ وتقاليد الحزب، مثل تعيين عشرة أعضاء جدد للجنة المركزية بدون أن يعرف المؤتمر أي شيء عنهم، أو عزل أعضاء في اللجنة المركزية دون أشعارهم وشرح الأسباب لهم أو لأعضاء المؤتمر، الذي يعرف دائما بانه اعلى سلطة في الحزب، حسب وثائق الحزب المركزية، البرنامج والنظام الداخلي، كما مررت الوثائق الحزبية بأساليب التراضي الشخصية والاغراءات والتهديدات المعروفة.
ومن المؤتمر الرابع والى كتابة مذكراته واصل باقر إبراهيم بطريقته وصبره النضالي خوض الصراع السياسي والفكري داخل وخارج الحزب، دون أن يقود انشقاقا أو يكوّن حزبا آخر، وفي نفس الوقت يلتقي ويتناقش مع المجموعات التي تكونت وأصدرت نشراتها وصحفها ويتحاور مع الكوادر العديدة التي تركت الحزب أو فصلت منه، بطبيعته الهادئة ونزاهته الشخصية، ويتواصل لاستمرار تيار الحركة الوطنية الديمقراطية العريض المستمر في نضاله الوطني التقدمي، بمختلف الوسائل والأشكال، من اجل وطن حر وشعب سعيد.
إن قراءة مذكرات شخصية سياسية ومثقفة وواعية لما تكتب وتمد السطور تعطي الكثير المضاف لما احتواه الفهرست أو لم يعنونه مبثوثا بين السطور والإشارات، والاطلاع على مسيرة الكاتب والمناضل في ظروف العراق المختلفة تشد إلى المتابعة وتسحب إلى المشاركة بين حبال الآلام وتحولات شجرة الحياة وفصولها المتعاقبة. فتضم وقائع وحقائق وخبرة ودروسا، وأخبارا ووثائق وقراءات وتحيات ويختمها بسيرة ذاتية وملحقا للصور.
وفي صفحاتها تسجيل ذكريات للاستفادة منها ليست عن الماضي وحسب وإنما للحاضر والمستقبل الذي يتغنى به كل حامل روح ندية وقابض جمر خلاق. وتلك هي مذكرات باقر إبراهيم، اتفقنا أو اختلفنا معه في الكثير أو في القليل منها، فقد أصبحت بكل ما فيها وعليها ملك الناس والوطنيين والثوريين وللعديد من الأجيال ولمستقبل الأعمال.