الجمعة، 19 سبتمبر 2008

لماذا قواعد عسكرية أمريكية في العراق؟

الجمعة 12/9/2008
أصبح مكررا و مملا وصف ما يصرح به الرئيس الأمريكي الحالي أو نائبه أو وزراؤه بالكذب الصريح والخداع العلني، فقد أوضح ذلك كتبتهم وحفظة أسرارهم بالوثائق والوقائع الدامغة. ( مثلا: كتاب المتحدّث السابق باسم البيت الأبيض، سكوت ماكليلان، «ماذا حدث: دهاليز البيت الأبيض وثقافة الخداع»)، وفقدت الإدارة الأمريكية احترام الرأي العام وحكومات دول كانت حليفة لها في الكثير من القضايا التي كانت تحسب لصالحها في المقارنات الدولية. وأصبح فقدان المصداقية في كل ما يقال عن السياسات الأمريكية، في أية قضية من القضايا، داخلية أو خارجية، هو السمة الأبرز في المشهد السياسي. ومن بينها ما تعلق بالقواعد العسكرية وما تتضمنه هذه القواعد وما يرتبط بها من تأثيرات متنوعة ومتعددة على صعد مختلفة، سياسية واقتصادية وبيئية وأخلاقية وقانونية وغيرها، إضافة إلى ما تعيده من صفحات من فترات الاستعمار القديم وأساليبه في الهيمنة والوسائل التي استخدمها في السيطرة والاحتلال. ولعل الواضح الآن هو تناقض التصريحات الرسمية الصادرة من بغداد أو واشنطن حول هذه القضية، اكثر من غيرها، أو تتوازى معها، متحولة إلى ألغاز وحكايات مبهمة، ولكن الوقائع لا يمكن إخفاؤها أو التستر عليها طويلا. وهي من بين ما يبحث حاليا في صيغ التوقيع على معاهدة أو اتفاقية أو مذكرة تفاهم أو ورقة أعمال مفتوحة ولأفق زمني مفتوح بين الإدارة الأمريكية والحكومة العراقية، كما تسمى في الديباجات، بين بلدين مستقلين وكاملي السيادة، (هكذا!)، ولحد الآن لم ينته الجدال حولها ولم يصرح بنصوصها، وتسرب بين حين وآخر فقرات منها، ويعلق عليها بما يخالفها أو يتماهى معها سرا ويرفضها علنا، دون خشية من ذاكرة أو إعلام مفتوح.
الوقائع تؤكد بناء قواعد عسكرية متنوعة، استراتيجية دائمة ووقتية ومتحركة، وتشمل خارطتها أركان العراق، واحداثياتها ملونة مثلها، حسب الطلب الرسمي والسري غير المباح القول فيه، إلا ما يرغب بتسريبه لحاجات أخرى أيضا. ونشر في بعض وسائل الإعلام، بالأسماء والعناوين والأرقام، حتى باتت قواعد معروفة بأماكنها وأحجامها وأعدادها ومحتوياتها، وهي مكشوفة فوق الأرض، أما ما خفي منها فليس أمرا بعيدا عن التصور والخيال.
تصريحات كثيرة وتقارير ودراسات أذاعها مسؤولون في الإدارة وأجهزتها والبنتاغون تشير إلى ذلك حتى في تناقضاتها أو محاولاتها الخديعة والدوران فيها، وكأنها تقول بالأخطر من كل ما يجري وهو ما ينجز ويبنى على الأرض فعلا. وهو المهم أو الأهم، الذي يكشف مخطط تحويل العراق إلى قاعدة استراتيجية أخرى، تضم داخلها قواعد عسكرية منوعة لخطط استراتيجية لإمبراطورية لم تعرف كيف تخفي نوازعها وأغراضها وهيمنتها، وتريد أن تكون أوسع من الإمبراطورية العثمانية أو حتى الرومانية في زمانها، ولهذا بدأت تتمدد خارج كل ما كان محرما عليها، أو بالأحرى ما وضعته هي في رصيد غيرها، فدخلت قوس النار في الحديقة الخلفية للاتحاد الروسي، وريث الاتحاد السوفيتي المنافس لها قبل عشرين عاما، وبعد انهياره تصور العالم أن عهدا آخر يبنى بأمن وسلام وحرية وديمقراطية تنعم بها البشرية دون أن تدفع ضريبة الدم اليومية الأكثر مما كان عليه الوضع في تلك السنوات.
هذا ما يفسر التخطيط وبناء القواعد العسكرية في العراق. لاسيما وقد تبين أن كل الذرائع التي اعتبرت سببا في غزوه قد فضحت وانتهت، بل وأخفيت وثائقها وملفاتها وصمت العالم الحر عنها، ومجلس الأمن والدول الثماني والجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي وغيرها من المنظمات وكأنها أصبحت من الماضي والتاريخ ولم تعد ذات أهمية للواقع الحالي والخراب والدمار فيه. ومع ذلك فان الاعترافات المنشورة في اكثر من مصدر، في وسائل الإعلام أو في كتب منشورة تثبت أن جرائم حرب نفذت وان مجازر وحشية ارتكبت واتهامات بإبادة جماعية وشهادات بتعذيب وممارسات فاشية اقترفت، وكلها تنتهي إلى الاستنتاج بان الإدارة الأمريكية هي المسؤولة عنها، مباشرة وبدون لبس أو مراوغة، من خلال مسؤوليتها القانونية بالاحتلال، ومن خلال إصدار الأوامر والإجراءات العملية، ومن خلال إدارتها للعمليات العسكرية اليومية في العراق. وانتهت معها كل الابتكارات التي أرادتها في التخفي وراءها أو التغطي بها، ووزعت أصنافا من المشاريع والمخططات العدوانية وقامت بتنفيذ العديد منها استهدافا لاستمرار بقائها وإطالة أمد احتلالها، متناسية كل ادعاءاتها بحجج غزوها وشعارات احتلالها. حتى أن مسؤولين بارزين منها أعلنوا صراحة أن كل الادعاءات مراوغة وان الأهداف الرئيسية واضحة عناوينها في النفط والقاعدة الاستراتيجية في الوطن العربي، وهنا الأسئلة عن طبيعة هذه القواعد العسكرية في العراق، ولاسيما قد حصلت على فرص كثيرة (ليس السؤال عنها الآن متأخرا) من اتفاقيات وقواعد علنية ومكشوفة، في البر والبحر، ولم تحجب السماء عنها، وطوقت بها جهات المعمورة. ووضعت بأيديها الكثير من المجالات والتسهيلات الجيو استراتيجية.
هذه القواعد أصبحت تحصيل حاصل، أو حقائق معلنة، ومؤشرات صريحة على النوايا والمخططات الإمبراطورية. وبات معلوما أن المفاوضات الجارية غطاء من دخان للتمويه والتغطية والتضليل أيضا. وتحولت صورتها المرعبة إلى جدران جديدة في السجن الواقعي للشعب العراقي ومصدر تهديد دائم لمستقبله وثرواته. هذه القواعد العسكرية ليست بناء حجريا وأسلحة فقط، وليست كما يعلن أو تشبه بما هي عليه في ألمانيا واليابان، بل اكثر خطورة، لظروف العراق والوطن العربي والأهداف الأخرى منها. ولعل ما يسربه بعض المسؤولين عنها يشكل وحده قلقا اكبر من دعائم بنائها وأسرارها المعلنة.