الأربعاء، 20 أغسطس 2008

في غياب غائب

الجمعة 15/8/2008
ولد الروائي غائب طعمة فرمان في بغداد عام 1927 في حي شعبي، وفيه عاش سنواته الأولى التي ظلت منقوشة في ذاكرته، مع ما أحدثته مناخات الحرب العالمية الثانية والحياة السياسية العراقية في تكوين شخصيته الإبداعية والسياسية، والتي نقل أجواءها في استرجاعاته وحنينه إلى مرابعه الأولى وحبه للتراث والتاريخ في معظم رواياته. وترك العراق إلى القاهرة وهو ابن عشرين عاما لاستكمال دراسته للغة الإنجليزية، وليبدأ منها رحلة الغربة والهجرة، وهناك التقى بأعلام الثقافة والأدب وعاش حياة القاهرة الثقافية وابهر من مجالسها، وقبل عودته إلى العراق للعمل في الصحافة والكتابة لرفض تعينه في مؤسسات الحكومة، نشر عددا من القصص القصيرة والمقالات الأدبية، عبرت عن تطوره الأدبي والفكري، وعكست قدراته وإمكانات بروزه الفني والثقافي. وهو القائل انه من الجيل الذي فتح عينيه والحرب العالمية قائمة بكل ما تحمله من مدلولات، النضال ضد الفاشية والتطلع إلى جلاء الجيوش من بلاده، والاستفادة من الانفتاح العام وفتح نوافذ ثقافية على كل الاتجاهات للنهل منها والاقتناع بالواقعية منهجا وأسلوبا. وبعد مشاركته في عدد من المؤتمرات الثقافية اصدر كتابه السياسي الأول: الحكم الأسود في العراق، فأسقطت عنه جنسيته العراقية، وتوجه إلى الصين، عاد منها بعد ثورة 14 تموز/يوليو 1958 وحين ضاقت به مدينته بغداد هاجر إلى موسكو ليمضي ما تبقى له من العمر ويبدع فيها كل تلك الروايات التي خلدت اسمه ووضعته في مكانته الرائدة في صف الرواد في الرواية الفنية الحديثة عراقيا وعربيا. وفي يوم 17 من شهر آب/ أغسطس عام 1990 غاب غائب في غربته، ودفن هناك.
اصدر غائب عام 1954 مجموعته الأولى بعنوان: حصيد الرحى، وتلتها عام 1959 مجموعته الثانية مولود آخر، وتتالت بعدها رواياته المعروفة: النخلة والجيران، خمسة أصوات، المخاض، القربان، ظلال على النافذة، آلام السيد معروف، المرتجى والمؤجل، المركب. كما ترجم نحو ثلاثين كتابا معظمها قصص وروايات ومقالات للعديد من أعمال رواد وكتاب عظام في الأدب الروسي وغيره إلى العربية.
عكس غائب في رواياته المجتمع العراقي في مراحل سياسية مهمة في تاريخه، منذ الأربعينات من القرن الماضي، راسما لوحة بانورامية لواقع الطبقات الكادحة في ظروف الاحتلال البريطاني قبل الثورة، ومن ثم الصراعات السياسية بين أحزابها فيما بعد اندلاعها، متعمقا في شخصياتها وأزمنتها ومكانها وظلالها وآلامها وغربتها ومعاناتها وصراعاتها من اجل حياة كريمة وخلاص من القيود والأغلال والاغتراب. حين حولت النخلة والجيران إلى المسرح الفني الحديث في بغداد أصبحت اكثر شعبية وشهرة لاسيما شخصياتها الشعبية التي باتت تتردد أسماؤها على السن الناس وتتناقل حواراتها وتعليقاتها في الشارع العام. مبينا فيها قدرته الفنية والروائية في التعبير عن أبطالها وسرد حياتهم الاجتماعية التي تعكس واقع المجتمع العراقي في تلك الفترة، إلى درجة أصبحت مثار اهتمام واسع بين النقاد والقراء والمشاهدين رغم أنها عن مرحلة زمنية سابقة وظرف تاريخي آخر. قدم غائب فيها صدقا فنيا وجهدا واضحا في بنائها ولغتها وانساقها الفنية. ومثلها انكب الروائي في كتابة الروايات الأخرى بدرجات متوازية معها في السرد والبناء والإبداع.
اهتمت أوساط ثقافية ومؤسسات أكاديمية بعد وفاته في إعادة البحث والكتابة عنه (اغلبها خارج وطنه)، حيث صدرت دراسات أكاديمية عنه للنقاد والباحثين خالد المصري، وزهير شليبة وفاطمة عيسى وعلي إبراهيم ومقالات ومقابلات عنه ومعه لأحمد النعمان، كما كتب عنه ابرز الكتاب والنقاد العرب في مناسبات الاحتفاء به وتذكره العابرة. اليوم ينبغي عدم الاكتفاء بمقالات وندوات محدودة لمثل هؤلاء المبدعين، فلهم دين على أوطانهم وشعوبهم ومثقفيها.. ولعل غائب واحد من ابرز من يستحق الاهتمام اكثر بإبداعه وتعريف الأجيال الجديدة من الكتاب والروائيين بدوره ومساهماته الثقافية.