الأربعاء، 30 يوليو 2008

السودان: المحكمة والمحاكمة

الجمعة 25/7/2008
الأوضاع السياسية الساخنة في الوطن العربي كثيرة، تتفاعل وتتصارع ولم تستقر الأحوال فيه، إيجابا أو سلبا. وتلعب الدول الطامعة في ثرواته البشرية والطبيعية دورا واسعا في عواملها، ولم تتوان عن استخدام كل مناهجها العدوانية ووسائلها المثيرة، ومن جهة أخرى تسمح الأوضاع نفسها بان تكون مواضيع متواصلة للأزمات وإشكالاتها، فتتداخل القضايا وتتعقد حلولها.
هذه الأيام مشكلة قرار اتهام وطلب توقيف الرئيس السوداني الحالي عمر البشير بتهم جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب على أبناء بلده في دارفور، وان المحكمة التي ستنظر فيها هي المحكمة الجنائية الدولية التي تأسست بموجب ميثاق روما عام 1998. وصادقت عليها 107 دول، من بينها ثلاث دول عربية (الأردن وجيبوتي وجزر القمر). وقبل إنشائها شكلت محاكم انتقائية، ولأسباب قد لا تكون فعلا لها أو للعدالة، مثل المحاكمات التي أسست بعد الحرب العالمية الثانية أو المحاكم الخاصة بيوغسلافيا وليبريا ورواندا وسيراليون وتشاد وغيرها. واشترطت الولايات المتحدة الأمريكية على هذه المحكمة التي مقرها في مدينة لاهاي بهولندا، من دون أن تكون ضمن عضويتها، أو قد انسحبت منها، أن يستثنى المواطنون الأمريكيون من المثول أمامها، حتى ولو ارتكبوا جرائم حرب وإبادة جماعية وضد الإنسانية، (وهو ما ينشر عن قواتها فعليا)، ووقّعت مع دول مستقلة مثل هذا الشرط، قبل أن تطبقه مع الدول التي احتلتها رسميا أو وقعت معها اتفاقيات احتلال عسكري غير مباشر. واصبح هذا الشرط الذي جرى العمل به مثلبة لتلك المحكمة وقواعد العمل والعدالة فيها. وأضاف لها تشكيل هيئة المحكمة من قضاة من بلدان غير معترفة بها مثل الولايات المتحدة الأمريكية.
وكانت القاعدة في الاتفاقيات أو المعاهدات الدولية ألا تطبق أحكامها إلا على الدول التي صادقت عليها، وأصبحت تسري ولايتها على الدول غير المصادقة في حالتين استثنائيتين فرضتهما قواعد العدالة، هما أن تقبل الدولة غير المصدقة طوعا واختيارا تطبيق أحكام الاتفاقية على رعاياها، أو أن تكون الحالة قد أرسلت بقرار من مجلس الأمن الدولي وفقا للفقرة «ب» من المادة ١٣ من نظامها الأساسي، وهذا ما حصل في حالة دارفور. رغم أن حكومة السودان لم تصادق على اتفاقية روما، ولم توافق أو تطلب المحاكمة. وهذه أمور تثير لبسا في طبيعة قرار المحكمة والمحاكمة، ولكن ما هي المحاكمة ولماذا، وهل هي قضية مصطنعة أم هي حالة قائمة ويجب معالجتها بكل الأشكال المتاحة لإحقاق الحق والعدالة واحترام حقوق الإنسان وكرامة البشر والمواطنة تحت حكم رشيد؟!.
تقارير منظمات دولية وإقليمية، حكومية وغيرها، ومنظمات مدافعة عن حقوق الإنسان، ومنذ سنوات تصدر وتتجدد في تغطيتها تجمع كلها على تعرض سكان دارفور إلى انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، منها قتل آلاف من المواطنين وتعذيب آلاف آخرين، واغتصاب واعتداءات جنسية على النساء في المخيمات والقرى الآمنة، وتهجير وتشريد ما يزيد على مليوني مواطن تحولوا إلى لاجئين داخل بلدهم أو خارجه، في مخيمات بائسة لا تتوفر فيها الحدود الدنيا للحياة العادية، وتتحكم فيها أوضاع حرب وتدهور حاد في كل ظروفها مما أنتجت تدنيا مروعا في مستويات المعيشة والتغذية والصحة والتعليم، برزت في تصاعد نسب أعداد وفاة الأطفال والمرضى.
َمن المسؤول عن هذه الانتهاكات والجرائم الواضحة؟. وكيف تعالج بعد أن أصبحت حالة معروفة الآن؟ ولماذا التأخر عنها حتى استفحلت وتكاثرت تطوراتها وباتت مشكلة فعلية؟. هذه القضية لا يمكن الصمت عليها من جهة ولا يمكن التجاوز فيها أيضا على أساسيات العمل السياسي وقواعد القانون والعدالة. وما ينتقص من قرار المدعي العام والمحكمة الجنائية الدولية هو انتقائيتها هذه أيضا، إضافة إلى ما سبق ذكره من موقفها من الشرط الأمريكي، وصمتها إزاء أمثال هذه القضية أو بما شاكلها من مشاكل حقيقية تطلبت منها مواقف مثل هذا الموقف القانوني، الذي وظف سياسيا وضيّع أهمية الموضوع الذي يبحث فيه. مما جعل الأمر ملتبسا وشائكا في الوقت نفسه، بين السكوت على الجريمة أو قبول الاستهداف السياسي ولمصالح لم تكن مخفية أيضا، بين محاباة استبداد قائم أو ترويج قرارات تتغطى بوشاح العدالة.
إذا أصدرت المحكمة الجنائية الدولية القرار وحددت المحاكمة، فما يتطلبه قرارها ومن ثم المحاكمة هو الموقف المبدئي من كل ما طرح، إنسانيا وقانونيا وسياسيا. والتمييز بين غائيته السياسية وتدهور الأوضاع الإنسانية في دارفور ومشروعية الحل الوطني للقضية الساخنة في السودان كله. وكي يصبح هذا القرار سابقة فعلية وإنذارا دوليا أن يتواصل دون تفريق في الدول أو رؤسائها في حالة انتهاك حقوق الإنسان، وان تتجرأ المحكمة ومدعيها العام الآن اكثر في إدانة الاستعمار الجديد بكل أشكاله كأكبر مصدر يمارس علنا انتهاكات فظيعة، ومحاكمة الاحتلال كدليل صارخ لجرائم الإبادة الجماعية وضد الإنسانية والحرب والعدوان.
في مقابلة تلفزيونية صرح المدعي العام للمحكمة لويس مورينو أوكامبو: إذا ذهبت هذه القضية إلى مجلس الأمن فالقرار ليس عائداً للمجلس بل إنه قرار القضاة، فلأول مرة في العالم عندنا محكمة مستقلة تعمل في نفس الوقت الذي تتم فيه الإبادة الجماعية. لهذا من المهم جداً أن القرار يكون قرار القضاة، فإذا قرروا أن هذه الاتهامات صحيحة فهو وضع جديد حيث إنها محكمة مستقلة ودائمة تقرر أن هناك حالة إبادة جماعية تجري أو أنها جرائم ضد الإنسانية أو جرائم حرب، والشخص يجب إيقافه وهذا هو العالم الجديد.
فهل ستكون المحكمة قادرة فعلا على وضع ملامح العالم الجديد؟.