الأربعاء، 30 يوليو 2008

شباب بريطانيا ونواقيس الخطر

الجمعة 18/7/2008
شاع أخيرا استخدام أسلحة بيضاء في جرائم قتل في أنحاء مختلفة من العاصمة البريطانية لندن، وفي مدن بريطانية أخرى، راح ضحيتها مواطنون ومقيمون من الجنسين ومن مختلف الأعمار وبأساليب وحشية. أرعبت الشارع البريطاني ودفعت الحكومة ودوائر الشرطة إلى الإسراع في الإعلان عن الحوادث ومواصفاتها ولكنها لم تنشر الأسباب لها مع إعلانات متكررة عن اعتقال عدد من المشتبه بهم وراء هذه الجرائم. وكالعادة قامت الحكومة ولاسيما وزارة الداخلية بعقد عدة اجتماعات ومؤتمرات إعلامية لدراسة هذه الظاهرة والتصريح باتخاذ إجراءات مشددة لوقف مثل هذه الجرائم والتهديد بعقوبات شديدة على المرتكبين. وفي تقارير سابقة كشفت وسائل الإعلام أن عدد الضحايا خلال العام الماضي للعنف المستشري وباستخدام الأسلحة اليدوية، خاصة السكاكين بأنواعها، اكثر من 20000 ضحية، بين قتيل ومصاب بإصابات مختلفة، بمعدل ما يقارب الستين ضحية يوميا. وفي كل الأحوال فان هذه الجرائم وبهذه الأعداد مخيفة ومقلقة رغم أنها لم تكن جديدة، أو لأول مرة، فقد حدث كثير من أمثالها باستخدام أنواع أخرى من أدوات القتل وأساليب أخرى من القتل أو الإيذاء. وسبق أن اعترفت وزيرة الداخلية البريطانية جاكي سميث بالخوف من الخروج في الشوارع ليلا لوحدها، وعلقت عليها وسائل الإعلام حينها بأنها إشارة لشيوع الجريمة الفردية المتكررة يوميا وبأعداد ليست قليلة، مثيرة للانتباه، وملفتة للأمن الشخصي والأمان العام والطمأنينة في العاصمة، ولكنها لم تتخذ الإجراءات الرادعة المناسبة للسيطرة ووقف استمرارها، والسؤال الطبيعي، إذا كانت وزيرة الداخلية في هذه الحالة، فمن يحمي المواطن العادي؟.. الجرائم لم تحدد دوافعها رسميا لحد الآن رغم عدم غياب مشاعر العنصرية والانتقام المرضي أو انحسارها تماما، إلا أنها شكلت ظاهرة واضحة انشغلت بها وسائل الإعلام البريطانية، لاسيما صحافة الفضائح كما يطلق عليها شعبيا. وفي كل الأحوال لم تكن هذه الجرائم غريبة عن المجتمعات الرأسمالية، في ظروف الأزمات الاقتصادية وتوسع التفاوت الاجتماعي وارتفاع الأسعار وتدني الأجور وانتشار البطالة وتشدد الأجهزة القمعية وتصرفاتها التي تتجاوز وتنتهك حقوق الإنسان والحريات العامة وغياب وصمت السياسيين والبرلمانيين عنها.
ترتكب هذه الجرائم رغم تشديد الحكومة في اتخاذ إجراءات قانونية وموافقات بعقوبات كبيرة من مجلس العموم عليها ضد ما تسميه بالإرهاب ومكافحته، وإعلان أن الأجهزة الأمنية تراقب أو تضع تحت المراقبة آلافا من المواطنين من المشكوك بهم إضافة إلى وجود اكثر من أربعة ملايين كاميرا مراقبة داخل العاصمة وحدها، بمعدل كاميرا لكل اثنين أو ثلاثة مواطنين يتحركون في العاصمة. وبالتأكيد تريد الحكومة البريطانية أن تضبط الأمن وتقضي على مظاهر العنف ونتائجه المأساوية، إلا أن هذه الإجراءات والقوانين الرادعة وحدها غير كافية أو لا تحل القضايا والأسباب التي توّلد مثل تلك الأحداث. وقد تترك آثارا سلبية وتولد حالات مضادة ومنها هذه الجرائم التي اجتاحت الشوارع البريطانية مؤخرا. وبالرغم من كل ذلك قد لا تكون مصادفة نشر تقارير، مصدرها بحث لوزارة الدفاع البريطانية، تفيد بتدني معنويات الجنود البريطانيين المشاركين في الحروب العدوانية في العراق وأفغانستان، وإن العديد منهم سيتركون الخدمة لو أتيح لهم ذلك. وهذه شهادة رسمية تكشف معاناة الجنود أو توريطهم في حروب عدوانية لا مصلحة عليا لشعبهم فيها. ونشرت سابقا معلومات عن القتلى والمنتحرين والمرضى نفسيا والهاربين من الخدمة وحالات أخرى تتصل بالنهاية بمواقف من الحرب التي شاركت بها الحكومة البريطانية بقيادة رئيسها السابق توني بلير لتنفيذ مخططات أمريكية إمبراطورية، دون حساب لخسائرها البشرية والمادية وما ستلحقه من نتائج أخرى. وتنعكس الحالات، وظروفها، إنطلاقا من نقص المعلومات الدقيقة وغياب الخطط العملية في المعالجة الواقعية والحلول الممكنة لها، إضافة لعواملها الموضوعية والذاتية على طبيعة المجتمع وآفاق تطوره. وقد لا يكون متأخرا تقديم خطط إضافية لمكافحة العنف وسط الشباب والمراهقين من قبل الحكومة البريطانية (الغارديان 14/7/2008)، ومواجهة بعض المصاعب التي كشفت عنها دراسة اعتمدت على عمل لمدة عامين مع أعضاء في ست من هذه العصابات في مدينة بريطانية، وتوصلت الى أن "المدارس والخدمات الصحية والسجون غير مهيأة على الإطلاق للتعاون والاستجابة الملائمة للمشكلات التي تسببها تلك العصابات". لهذا استجابت الحكومة البريطانية الى طلبات تكثيف عمل الشرطة وفرض عقوبات طويلة على المخالفين، إضافة إلى خطة حكومية بتكلفة 100 مليون جنيه إسترليني لمكافحة جرائم الشباب.
من الواضح أن مثل هذه الجرائم التي تزداد أعدادها يوميا، تتطلب إجراءات عاجلة وواقعية وعدم التغاضي عنها أو الركون إلى صرف الأموال وحدها أو تبذيرها دون نتائج ملموسة لها، واغلبها معروفة ومتوارثة. وما يحصل هنا داخل المدن أو في الوحدات العسكرية المشاركة في حروب باطلة يكشف أزمة كبيرة في السياسات الرسمية وأساليب الحياة والأخلاق العامة، وربما الفضيحة الأخيرة عن تهم بالاغتصاب، كما أوردت صحيفة الإندبندنت (13/7/2008) لجندي أو جنود بالإساءة جنسياً إلى صبي عراقي حينما كان يبلغ 14 عاما من العمر، تضيف أبعادا أخرى، ووفقا للصحيفة لو أثبتت هذه الادعاءات فستكون "سقطة قذرة" للقوات البريطانية في العراق وستدمر السمعة البريطانية في الشرق الأوسط، كما حصل مع جرائم سجن أبو غريب بالنسبة للسمعة الأمريكية.
هذه الجرائم الخطيرة مترابطة وتدق نواقيس الخطر والرعب وتضع أولا المسؤولية الوظيفية في حماية المجتمع والأخلاق العامة وعدم الاكتفاء باجتماعات ومؤتمرات إعلامية وكتابة خطط ومعالجات مبتسرة مؤقتة وهامشية وبعيدة عن حلول جذرية واقعية لأسبابها المتشابكة والعديدة وتداعياتها الكارثية.