تقدم الدول الغنية الكبرى مساعدات مختلفة، سياسية واقتصادية وثقافية وغيرها إلى البلدان الفقيرة أو الأقل نموا، وبلا شك لم تكن هذه المساعدات هبات خيرية، لوجه الله، كما يقال، دون أهداف تخدم المصالح الحيوية لتلك الدول، وهي مساعدات كبيرة تستقطع من ميزانيات تلك الدول وتتم عبر البيروقراطية الإدارية وتمر بموافقات رسمية مما تفتح أبواب الضغوط والرهانات والارتهانات واسعا عليها، ولاسيما في مراحل الاستعمار القديم وبالتأكيد لا يختلف الجديد جوهريا عنها. وفي كل الأحوال فان ما تقدمه هذه الدول تسترجعه بطرق متعددة مثل سبل الإعانة والدعم، وتفرض عبرها أهدافها ومخططاتها ومشاريعها، والتي حملت أسماء متنوعة، توزعت بين الاتفاقيات والمعاهدات إلى الأحلاف والكتل والتجمعات. وامتازت الولايات المتحدة الأمريكية في كل المراحل في تقديم أنواع من هذه المساعدات إلى العديد من البلدان، وتستثمرها خاصة تلك التي ترتبط معها بعلاقات استراتيجية وتوفر لها ما يخدم مصالحها المباشرة وغيرها، بمختلف الأشكال والاساليب. سواء عن طريق مباشر أو غيرها. ولعل توزع القواعد العسكرية على المعمورة نموذج على ذلك، ومنه تتفرع طبيعة تلك المساعدات وتنعكس تداعياتها فيما بعد في وظيفتها وتوظيفها.
في أي مكان على الكرة الأرضية، تظهر المساعدات الامريكية بالذات وسائل سياسية وعلاقات متبادلة ولكن لصالح الطرف الاقوى والاكبر بين الطرفين او الاطراف، وتاخذ مناحي ذات ابعاد استراتيجية تستثمرها الولايات المتحدة بشكل كامل، وصولا الى المس او الثلم في السيادة الوطنية والاستقلال الوطني والكرامة القومية، وكأنها تعيد سياسات الإخضاع والاستعمار بأسماء المساعدات، خصوصا الاقتصادية وامتدادها إلى السياسية والأمنية وما يتبعهما.
تكشف سيرة تلك المساعدات وتنوعاتها ومن ثم تداعياتها حقيقة أنها مقصودة أو محسوبة بطرق تضمن لمانحيها مردودات اكبر منها، وهي موجهة بكل الأساليب إلى الاسترجاع باستثمار اكبر منها او ما يعادلها. ولهذا فان كل المساعدات تتفاعل إلى ما تريده آنيا أو مستقبلا وترغب أن تسدد بدفعات مثلما تمنح شكليا وأمام الإعلام والرأي العام، وما تنشره وسائل الإعلام عنها يفيد الجهة المساعدة اكثر من البلدان الحاصلة عليها، وهذا ما تشير إليه طبيعة الضغوط التي تتواصل مع المساعدات، سواء من الإدارة الأمريكية أو مؤسساتها الأخرى، أو من اللوبيات التي تعمل بموازاة تقديمها وضمان الربح منها أو استغلالها كاملا.
توضحت طبيعة المساعدات في فرض صور الهيمنة وفي أساليب التبعية، خاصة في العالم العربي. وتعلن عنها القواعد العسكرية المتزايدة، والاتفاقيات الأمنية العلنية والسرية ومن ثم دور السفارة ودوائرها المعلومة في التدخل والضغوط المختلفة على السلطات والمؤسسات الحاكمة بتعدد مستوياتها، وصولا الى منظمات المجتمع المدني ووسائل الاعلام، وفضائحها تتسرب بين اونة واخرى وفي ذات الوسائل او في تطوراتها الأميبية الجديدة منها.
تتفاوت كمية ونوعية المساعدات وفق قرب ودور العلاقات الثنائية، ومن بينها شروطها وأساليب منحها والتصرف فيها، وما تلتزم به ازاءها او تتقارب مع نسب الولاء والارتهان السياسي والامني والعسكري والاقتصادي وحتى الثقافي. وقد وصل الأمر إلى التساؤل السلبي عن كيفية الاستغناء عنها، والتدافع في الحصول عليها. في الوقت الذي بات فيه واضحا الفارق بين ما يقدم للبلدان العربية ولإسرائيل كمثل عن طبيعتها، لاسيما بعد ما سمي بسياسات الحرب على الارهاب بعد انتهاء الحرب الباردة واحداث ايلول/ سبتمبر الامريكية وما تلاها من تطورات عالمية سلمت للولايات المتحدة الاستفراد في الهيمنة. ومن ثم استفحال دور اللوبيات المعادية للعرب في حجم ونوع تلك المساعدات، وما نشر مؤخرا بصدد تخفيض أو استقطاع من المساعدات المقدمة سنويا لمصر نموذجا على ذلك. حيث لم تتغير سياسات الإدارة الأمريكية بهذا الصدد بتضارب معاييرها وتناقض شعاراتها وارتكاباتها الصارخة ضد القانون الدولي الإنساني خصوصا وحسب، وإنما أيضا في ترتيب سلم الحلفاء ودرجات الولاء او الارتهان. كما ثبت أن هذه اللوبيات تؤثر سياسيا وماليا، إذ دعا «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، وهو المؤسسة الفكرية للوبي اليهودي، الحكومة الأميركية إلى ممارسة ضغوط على بلدان الخليج العربية المصدّرة للنفط، لتقديم دعم أكبر للسلطة الفلسطينية، بسبب زيادة عائداتها المالية الناجمة عن ارتفاع أسعار النفط، وبحجة تخفيف الأعباء المالية التي قال إن الولايات المتحدة وأوروبا تتحملانها بما تقدمه من مساعدات مالية للسلطة، دون الإشارة إلى التزاماتها والاتفاقيات التي وقعتها أو إدارتها مع السلطة وغيرها من الدول التي تعاملت معها. ونجحت هذه اللوبيات في تقليص المساعدات وفرض شروط سياسية عليها والتفنن في استخداماتها أو صرفها في المجالات التي تتسرب منها حصصا وفيرة خارج أهدافها أو منحاها.
استراتيجيات السياسة الأمريكية في طبيعة المساعدات تنوعت زمنيا وجغرافيا وواجهت في اغلبها أزمات المدلول منها والأهداف المنشودة والاشتراطات التي صحبتها، وبالرغم من استمرارها وبرامجها والخطط المدروسة لها الا انها لم تحظ بالقبول المرغوب او بالترحاب المطلوب، حيث تكشفت مراميها قبل تطبيقاتها وتعرت الازدواجية في ممارساتها وانعكست في التداعيات التي تمخضت عنها أو بحكمها. ورغم كل التضليل الإعلامي والتهويل بها ظلت تداعياتها اكبر منها واسرع تأثيرا على الرأي العام وحتى الحكومات الحاصلة عليها. وما حصل بتراجع استراتيجيات الولايات المتحدة بخصوص نشر الديمقراطية كاستراتيجية مساعدات وما خصص لها أيضا من أموال مخجلة يطرح من جديد اهمية التفكير بجدواها وصور التغلب على الاعتماد عليها او الارتكاز اليها في العلاقات المتبادلة واطلاق الارادات الشعبية الرافضة او المتضررة منها.
طبيعة اية مساعدات تتطلب ان تكون نزيهة وتصب في تطوير البنى الاساسية وتحديث العلاقات المتبادلة التي تخدم بالتالي المصالح المشتركة والتقدم الاجتماعي والتنمية المستدامة والحكم الرشيد.