السبت، 15 ديسمبر 2007

إنسحاب حلفاء بوش من ورطة العراق

الجمعة 14/12/2007
توالت بشكل ملفت كلمة انسحاب القوات التي شاركت الولايات المتحدة الأمريكية في احتلالها العراق ودخولها في ورطة عويصة، فرضت عليها البحث عن مخرج لها، يحفظ لها ما رسمته وما خططت له على مدى تفردها بالقرار السياسي الدولي والاحلام الامبراطورية، دون ان يؤثر على اهدافها الاستراتيجية.
الخلاف بين الإدارتين البريطانية والأمريكية حول الاحتلال والغزو المباشر للعراق بات معروفا، وضمنه خطة انسحاب القوات البريطانية بشكل منتظم منذ استلام غوردون براون رئاسة الحكومة البريطانية، وإعلانه شخصيا انسحاب نصف قواته من البصرة خلال هذا العام واستكمال الباقي في الربع الأول من العام القادم، وتسليم مهمات الأمن التي كانت تقوم بها القوات البريطانية في البصرة إلى القوات العراقية قبل نهاية هذا العام، والانكفاء إلى مواقع خلفية والزعم بمهمات التدريب والدعم اللوجستي لحاجات القوات العراقية، وقد يكون لمهمات أخرى غير معلنة الآن ولكنها غير قادرة عليها بحجمها السابق والحالي، إذا اشتعلت فعلا ما سماها بوش بالحرب العالمية الثالثة. وكانت وسائل إعلام أمريكية قد انتقدت الانسحاب وسمته بالهزيمة وترك ظهر القوات الأمريكية مكشوفا، في وقت تضع الإدارة الأمريكية خطط زيادة اعدادها واستكمال بناء قواعدها والتحضير لاعلان النصر لها كما اراد له الرئيس الامريكي او من أوحى له بذلك. واشارت بعضها الى اتفاق معها وفي تنظيم خطط الانسحاب وملأ الفراغ بقوات أخرى، ربما تسير في سبيل الانسحاب ايضا.
كما الحليف البريطاني جاء دور الأسترالي، وكأن لعنة بوش، كما سمتها وسائل الإعلام تلاحق كل الحلفاء، وقد مستهم جميعا ممن حسبوا او اعتبرتهم الإدارة الأمريكية باقرب الحلفاء لمشاريعها. فبعد هزيمة سيلفيو برلسكوني في روما، وخوسيه ماريا ازنار في مدريد، وتوني بلير في لندن، حل معهم جون هاورد في سدني، راحلا هو الآخر جارا معه خيبة أمل كبيرة، مانحة غريمه العمالي المعارض لسياساته فرصة الفوز بموقعه في الحكم والقرار والحديث بطلاقة عن انسحاب القوات الأسترالية من العراق ونقد إصرار هوارد على بقائها طيلة تلك الفترة. وهكذا كرت سلسلة القادة السياسيين المتحالفين مع البيت الأبيض الأمريكي في غزو واحتلال العراق والمشاركة معه في حروبه المتكررة والمتواصلة، تحت مختلف المسميات والعناوين التي لم تعد اسماؤها ذات معنى حقيقي ومقنع حتى للجنود الذين يقومون بمهماتها. ولم يعد الانسحاب فكرة وحسب.
لماذا طغت كلمة الانسحاب في المشهد السياسي للبلدان التي عدت من اقرب الحلفاء لبوش؟. نتائج الانتخابات أعطت مؤشرات واضحة لتململ شعوب هذه البلدان من سياسات عدوانية ظالمة لا مصلحة لها فيها، أثرت على أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية، مع خسائرها المادية والبشرية وعواقبها المستقبلية، وتجمعت لديها خبرات تاريخية من هزائم قاسية مازالت تداعياتها تدق في رؤوس المتحكمين والمتعجرفين والناكرين لها. وبين هذه التصورات والتغيرات ما قام به قادة عسكريون أيضا، صادقوا فيها على طبيعة النتائج ومآلها، ورفعوا عنهم غطاء الالتزام العسكري وابدوا بآرائهم صريحة وحادة كمواقفهم في ساحات الحرب.
مثلا تقرير الأركان البريطانية. وفيه حذر رئيس الأركان البريطانية الجنرال ريتشارد دانات من تداعيات الوقائع التي عليها الآن القوات المسلحة، قائلا: إن طاقات الجيش الذي يواجه مشكلة بسبب تراجع معنويات جنوده، وصلت إلى اقصاها. واوضح أن مستوى المساهمة الحالي في العمليات المطلوب من الجيش "لا يحتمل" وان "عديده لا يكفي والقوات تشعر بالتعب نتيجة الوضع في العراق ولأنه لا يتم تقدير جهودها". أكد التقرير الذي وضع استنادا إلى شهادة الآلاف أن عددا متزايدا من العسكريين "لم يعد يؤمن بالحياة العسكرية وان النوايا الحسنة بدأت تتراجع ويفكرون في ترك صفوف الجيش". أضاف "علينا أن نعطيهم المزيد من الوقت للراحة بين عملية وأخرى".
وشنت قيادات سابقة في القوات المسلحة البريطانية هجوماً عنيفاً على حكومة رئيس الوزراء براون في مجلس اللوردات البريطاني. وخصت براون شخصياً في هذه الهجمات بعد اتهامه بأنه يعامل القوات المسلحة باحتقار وذلك على نحو جعلها تعاني نقصاً حاداً في الاعتمادات المالية إلى درجة الشعور باليأس.
رغم أن هذه الإشارات الواضحة لمعاناة القوات وخطل القيادات السياسية في تحالفاتها مع خطط ومشاريع إمبراطورية لا تخدم مصالحها الراهنة على الأقل، ورغم أن هذه التصريحات والانسحابات المتتالية من قوات التحالف فالدراسات التي تقوم بها مراكز الابحاث الأمريكية خصوصا تضع خططا وسيناريوهات أخرى أيضا لابد من النظر إليها بترو، وضرورة معرفة تاريخ الشعب العراقي في الكفاح الوطني التحرري ومقاومة سياسات الاحتلال والغزو الأجنبية، معها أو بالتوازي، حيث تسعى في نهاياتها إلى مد عمر الاحتلال بأشكال متعددة وبأساليب مختلفة، تتذرع أحيانا بما يفيدها مباشرة ويؤثر على مصالح البلاد والعباد الواقعة تحت الاحتلال المباشر. من بين هذه السيناريوهات مشاريع التقسيم والحرب الأهلية والحكم العسكري وبناء القواعد الاستراتيجية والتطويق العسكري من الخارج بقواعد أخرى، كما هو الحال في الدول المجاورة للعراق وتتواجد فيها قوات او قواعد عسكرية أمريكية واساطيل وبوارج ومعدات اضافة الىالقاعدة الاستراتيجية المعروفة في المنطقة. وهي في هذه الحالة تريد كما جدد أخيرا قائد قواتها العام في العراق الجنرال ديفيد بتريوس تفاؤله بالتقدم المتحقق في العراق على الصعيد الأمني، وما وصفه برقصة الانتصار، التي حذر من التسرع بالتمرين عليها مرغما ومن خبرته العسكرية وفي العراق بالذات.
الانسحابات أو القواعد والتصريحات بالإقامة الطويلة تظل محل اختبار حقيقي بين وقائع ما يحصل على الأرض وما قدمته دروس التاريخ من فيتنام والجزائر وجنوب أفريقيا وغيرها من تجارب الشعوب المعاصرة وأوهام البيت الأبيض وحلفائه البعيدين والقريبين.