الجمعة، 29 يونيو 2007

تدمير أور وبابل ثمن الحرية

الراية- د. كاظم الموسوي
السبت30/7/2005
لماذا اختيرت مدينتا اور وبابل بالذات قواعد عسكرية أمريكية أو لحلفائها من دون غيرها من المواقع والمدن
والمعسكرات الفعلية في ارض العراق الواسعة؟، ولماذا رسمت مواقع القواعد العسكرية علي مناطق أثرية أساسا، وعند البنتاغون علم بها؟، أم لابد من الانتقام من محمولها التاريخي وشخصياتها التي يصعب علي كل وسائل التقنية العسكرية محوها من الذاكرة والتاريخ الإنساني. هل يعرف القائد العسكري الأمريكي أو البريطاني أو غيره تاريخ هذه المدن، متي بنيت ومن بناها وما هي أمجادها وأساطيرها التاريخية؟. لقد مرت علي مدينتي اور وبابل آلاف السنوات وأعيد بناؤهما وجددا عبر تلك العصور، وفيهما من الآثار الحضارية ما يغني ويزيد علي صفحات التاريخ كتابة وثراءً وقيمة وشهادة إنسانية. لابد أن يفكر المرء بذلك وهو يقرا تقارير وأخبار التدمير والتهديم لهذه المدن الأثرية وللكنوز الحضارية التي تضمها، وللتاريخ والمستقبل، ولكل الشعارات الخادعة التي حملتها هذه القوات المحتلة لتراث العراق وسرقة كنوزه. أية علاقة بالخراب والحرية التي يريد تسويقها فرسان البنتاغون الجدد؟!.
إضافة إلي ما حل بالمتحف الوطني العراقي ببغداد وفروعه ومثيلاته في المدن الأخري، وتحطيم واختفاء آلاف القطع الأثرية منها، خاصة تلك التي تعود إلي حضارة آلاف السنين، من بدايات التاريخ البشري، طال التهديم والتخريب المتعمد المدن الاثارية والحضارية المعروفة والتي لها قصص في التاريخ الإنساني وحكايات عن مغاز خفية تتداخل بين التاريخي والراهن، من أهداف غزو العراق واحتلاله وسقطات لسان الرئيس الأمريكي وعصاباته الصهيونية. واضطر العديد من خبراء الآثار العالميين إلي دق أجراس الإنذار والتنبيه إلي خطورة وفداحة ما يحصل من أفعال لا يمكن قبولها أو السكوت عنها. ومهما كانت بعض الصور المعبرة عن نهب فردي أو أعمال عصابات إجرامية وسرقة تحف أثرية فان مجرد التفرج عليها والسماح لتلك الجرائم الصارخة أن تحدث تحت نظر وسمع وإمكانية منع قوات الاحتلال لها وتركها للاجتياح بهذا الشكل الكارثي لا يجعلها إلا أعمال تخريب ثقافي متعمد بدوافع دينية أو سياسية أو سوية. فلم تتعرض الآثار العراقية للنهب من المتاحف وحدها وإنما من المواقع والمدن ذات الأهمية التاريخية. ولم يكتف بذلك بل أخذت تتعرض للتدمير المقصود والواسع من قبل وحدات عسكرية حولت الكثير منها إلي معسكرات وبنت من الحجارة الأثرية متاريس لحمايتها أو لبناء أستار ترابية منها لعرباتها العسكرية. عاكسة بذلك عقلية وتخطيطا لما تقوم به من أعمال إجرامية بحق التراث والحضارة وقدسية الأرض التي دنستها أقدام جنودها المحتلين.
أشارت البروفيسور اليزابيث ستون من جامعة ستونيبرك بنيويورك: "إن ما يحدث الآن أسوأ مما حدث لمتحف بغداد". قالت ذلك بعد دراستها لمئات من الصور التي التقطتها الأقمار الصناعية للمواقع الأثرية. ووجدت إن تلك المناطق تتعرض بالفعل للنهب والتدمير . وقال الدكتور جون كورتيس مدير إدارة الشرق الأدني القديم بالمعهد البريطاني إن الساعين وراء الآثار يدمرون المواقع الأثرية . وذكر البروفيسور بول زيمانسكي، استاذ التنقيب بجامعة بوستن الأمريكية أن نهب القطع الأثرية بالمتحف اكبر كارثة ثقافية وقعت خلال ال 500 سنة الأخيرة. ومن المؤكد أن الرابع عشر من أبريل 2003 سوف يبقي ماثلا في ذاكرة العراقيين لانه اليوم الذي شهد العالم فيه نهب وتخريب التراث الثقافي لبلادهم، مهد الحضارة الإنسانية.
وعلي اثر التهديم والتخريب العسكري لآثار مدينة بابل اصدر المتحف البريطاني تقريرا من 14 صفحة جاء فيه: استعملت بابل كمستودع عسكري خلال السنتين الماضيتين رغم احتجاجات علماء الآثار. والوضع كما لو نصبت مخيما عسكريا حول الهرم الأكبر بمصر .
وقد استندت له صحيفة الغارديان (ليوم 15/1/2005) مسجلة اندهاشها عبر مقال بعنوان تدمير بابل: قوات التحالف تترك الخراب والتلوث في موقع معماري ذي أهمية للإنسانية جمعاء ، مدعوما بصورة من الجو مفصلة لموقع بابل وما لحق به من خسائر بسبب استهتار قوات التحالف كما سمتها. ونشرت مقالا آخر بعنوان شهور من الحرب أتلفت قرونا من التاريخ ، مصحوبا بصور تمثل الأضرار التي ألحقها جنود الاحتلال الأمريكي من فرقة الفا بآثار بابل. وتناقلت وسائل الاعلام مثل تلك الصور والأقوال، وذكرت الغارديان، نقلا من التقرير، إنه تم تسوية مساحات شاسعة من أطلال الآثار العريقة واستعمال آلاف الأطنان منها لتعبئة أكياس الرمل، كما حفرت الخنادق داخلها ولوثت ما تبقي منها الزيوت والنفايات المسربة من الآليات العسكرية. فماذا يعني هذا؟.
اهتمت الحكومات المتعاقبة منذ تأسيس الدولة العراقية بحماية الآثار العراقية وبذل جهود كبيرة في الحفاظ علي الكنوز التاريخية التي خلدت آلاف السنين. وتطورت البحوث واتخذت خطوات جادة في الكشف علي قسم كبير من تلك الآثار وحل ألغازها والاطلاع علي أسرارها. لكنه وبعد احتلال العراق وفي سويعات قليلة جرت المأساة ونقلتها شاشات التلفزة ووسائل الاعلام الدولية، ويتواصل العمل علي تدمير اور وبابل واشور واكد ومقابر دار السلام وكل ما هو مقدس وتحترمه الإنسانية بالعراق.
بكل غطرسة عقب وزير الحرب الأمريكي دونالد رامسفيلد بأن حالات النهب والسلب التي جرت ببغداد هي جزء من ثمن الحرية وان مثل هذه الأشياء كثيرا ما تحدث. مواصلا في أحد البرامج التليفزيونية بأن مشاهد الفوضي التي عمت العراق تصاحب عادة ما يجري عند الانتقال من نظام ديكتاتوري متسلط إلي نظام سيكون مختلفا، انها فترة انتقالية تضيع فيها السلطة. هكذا بكل بساطة تدمير هذه المدن والآثار جزء من ثمن الحرية.. هل يمكن قبول مثل هذا التفسير أو التبرير، وهل هذه أقوال مسؤولة؟، ولماذا تدفع هذه المواقع المحمية بقوانين واتفاقيات دولية تسهر عليها وتراعي خصوصيتها وقدسيتها هذا الثمن وما صلته بها، ولماذا لم يشمل بناية وزارة النفط أيضا؟ وإذا كانت هذه الفترة الفوضوية والتي جري فيها مترافقا إحراق ونهب محتويات المكتبة الوطنية ومؤسسة السينما ودار الإذاعة والجامعات وغيرها من الرموز الثقافية والتاريخية متوقعة فلماذا لم تتخذ الإجراءات المناسبة للحد من تدمير كل تلك النتاجات الثقافية النفيسة؟. وكان العديد من مراسلي وسائل الاعلام الأمريكان وغيرهم من الغربيين قد نقلوا عن أن القوات الأميركية لم تحاول فعلا منع الكارثة الثقافية التي تمثل جانبا من الهوية العراقية وان دوائر البنتاغون التقت قبيل شن الحرب بعدد من خبراء الآثار الأميركيين لمناقشة مواقع الآثار العراقية ووضعت علامات لها علي خرائط وخطط القوات المحتلة، كما ذكر اكثر من خبير آثار أمريكي.
محتويات المتحف الوطني العراقي والمكتبات والمؤسسات الثقافية والمدن التاريخية وآثارها المتبقية جزء من ذاكرة الشعب العراقي التاريخية ومن كنوزه الحضارية ومن تاريخ الإنسان وحضارته العالمية، ولا يكفي أن تعتبر المنظمات الدولية الآن العراق كله منطقة حماية تراثية واحدة وحسب وإنما لابد من العمل علي إعادة كل ما سرق وترميم كل ما خرب الخراج قوات الاحتلال من كل ارض العراق. ما حصل وما حدث وما زال يخطط للعراق وشعبه وتاريخه وتراثه لن يمحو أسماء أبطاله الأسطوريين كنبوخذ نصر وحمورابي وجلجامش وغيرهم، سيظلون خالدين مثلما بقوا طيلة هذه القرون من السنين، ولكن الخسارة الكبيرة للإنسانية والحضارة ما تمت إبادته كليا وبوحشية لا تنسي
.