تتميز ايرلندا في مواقفها المعلنة رسميا من فلسطين، قضية وشعب، بالمشترك او المتشابه من تأريخها السياسي وتجربتها النضالية، مقارنة مع المواقف السياسية للبلدان الاخرى، اوروبيا او دوليا. وهي ما تتطور مع تطورات الاحداث والتحولات السياسية، وتلفت الانتباه باستمرارها وتصاعدها في داخل البلاد وخارجها، في المحافل والمؤسسات والمؤتمرات الوطنية والدولية. واحيانا تتموج مع الضغوط والممارسات الخارجية ولكنها تاخذ في دعم القضية الفلسطينية، عموما، شكلا غير مسبوق، متصاعدا في سياق مسار تاريخي، برزت فيه هذه الجمهورية الإيرلندية، كواحدة من أكثر الدول الأوروبية، في دعم القضية الفلسطينية، خلال محطات ومواقف حاسمة تتجاوز في كثير من الأحيان سقف التضامن والدعم لدى بعض الدول العربية والاسلامية، وخاصة في الادانة الصريحة والتنديد المستمر بالاحتلال الاستيطاني وممارساته النازفاشية (النازي- الفاشي).
في الواقع يرى الايرلنديون كثيرا من التشابه السياسي والتاريخي بين القضية الفلسطينية وقضيتهم الإيرلندية، من حيث الاحتلال ودولة الاحتلال في مراحل تأريخية، حيث تعتبر جمهورية ايرلندا منذ اواسط الاربعينات من القرن الماضي وقبل اعلان قيام الكيان إلاسرائيلي، تعتبره كيانا تابعا للاستعمار او قاعدة متقدمة له من اجل السيطرة على الدول العربية، شرق الوطن العربي وغربه، كما يعتبرون ايرلندا الشمالية، الجزء المنقسم من بلادهم وشعبهم، محتلا من قبل المملكة المتحدة. حيث أنشأت بريطانيا فيه دولة سميت إيرلندا الشمالية، وبهذه الطريقة احتفظت الإمبراطورية البريطانية حينها بجزء من إيرلندا بعد انسحابها من الجزء الجنوبي. وتم وضع التاج البريطاني على علم إيرلندا الشمالية، الذي يعتبر رمزاً للاستعمار البريطاني بنظر الإيرلنديين، حيث فرض البريطانيون دولة إيرلندا الشمالية – الواقعة في منطقة آلستر – على جزء من أرضهم. وبناءً على هذا المخطط الاستعماري، تُعتبر إيرلندا الشمالية بنظر الشعب الإيرلندي مستعمرة بريطانية وكيانا غير شرعي تم إنشاؤه على جزءٍ من جزيرتهم، او احتلالا لجزء من ارضهم وشعبهم. وبناء عليه يشبهون ذلك بما حصل مع فلسطين والشعب الفلسطيني.
عمليا لم تعترف جمهورية إيرلندا في قيام الكيان إلاسرائيلي الا بعد خمس عشرة سنة، خلاف غيرها من الدول الاوربية والآسيوية، واعترفت بنكبة الشعب الفلسطيني، وجعلت قضية اللاجئين الفلسطينيين قضيتها، لاسيما بعد نكسة 1967، بل ودافعت عن حق العودة وطالبت بتعويض كامل للاجئين الفلسطينيين، مما لم تقم اية دولة اوروبية أو اسيوية، خصوصا وغيرها عموما بمثل هذه المواقف والسياسات الصريحة والحاسمة. وتوضحت اكثر بعد عضويتها للاتحاد الاوروبي، وقيام ممثليها فيه بدور كبير في المطالبة باقامة دولة فلسطينية، والاهتمام بهذا الملف كما صرح مسؤولوها الرسميون، ونوابها، بابعاده الاخلاقية والانسانية وحقوق الانسان والشعوب ومعاداة الإمبريالية والاحتلال والاستيطان الاستعماري.
برز تميز جمهورية ايرلندا بعد طوفان الأقصى، بعد السابع من تشرين الاول/ اكتوبر 2023، بشكل اكبر، اخلاقيا وانسانيا، رسميا وشعبيا، ايضا، عن بقية الدول الغربية والشرقية، واعلنت ان ما تقوم به آلة الحرب العدوانية الاسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني في غزة خصوصا بجرائم حرب وضد الانسانية والقانون الدولي. ولابد من وقفها ومحاصرة الكيان وعزله في تحركات سياسية ومواقف شجاعة في ادانتها وتصعيد دعم القضية الفلسطينية، منطلقا من تجارب تاريخية لها في مواجهة الاستعمار البريطاني والاستيطان والممارسات الاستبدادية للمستعمرين. فلم يهدا الشارع الايرلندي من التظاهر والاحتجاج ورفع شعارات الحرية لفلسطين وادانة سياسات النازفاشية ضد الشعب الفلسطيني.
اضافت الى المواقف الإيرلندية، الرسمية والدبلوماسية، مشاركات قطاعات شعبية مؤثرة اجتماعيا وشعبيا، منظمات أهلية حقوقية ومهنية، بمواقف وحراكات لها معانيها ودلالاتها، كاتحاد الكتاب، الذين بادروا في رسالة مفتوحة بتوقيع المئات منهم بعد اسبوع من العدوان النازفاشي على غزة، دعت الرسالة الى "وقف فوري لإطلاق النار ودخول المساعدات الإنسانية دون عوائق". واعتبر الموقعون أن القصف الإسرائيلي هو "انتهاك للقانون الدولي واعتداء على حُرمة الحياة البشرية"، معبرة الرسالة في إدانة واضحة للعدوان الوحشي غير المسبوق ولمن يوفر له من دعم غربي كبير ضد أكثر من مليوني فلسطيني عزل يعيشون في قطاع غزة، المحاصر من جميع الاتجاهات والمستويات.
من جهتها أعلنت "حملة التضامن الأيرلندية - الفلسطينية" (IPSC) في أيار/ مايو من العام الماضي عن توقيع ألف وخمسمئة فنان أيرلندي على تعهُّد بمقاطعة كيان "إسرائيل"، منهم أسماء بارزة، مثل ريموند دين، وسينياد كوزاك، ودونال لوني، وأندي إيرفين، وماري بلاك، وغيرهم. ورأت رئيسة الحملة، زوي لولور، أن التعهد يلعب دوراً رئيسياً في لحظة "يعيش فيها الشعب الفلسطيني عامه الخامس والسبعين من السلب والتطهير العرقي والفصل العنصري والنفي القسري والتهجير الجماعي، وتفشل الحكومات الغربية في فرض عقوبات على الكيان الإسرائيلي". ومن اهداف هذا العمل ايضا التحريض ايضا لجمعيات ونقابات العاملين في كل القطاعات الابداعية والمهنية، وليس في الجمهورية وحدها. وأطلقت منظمات أيرلندية حملات مكثفة عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي لنشر الوعي حول معاناة الفلسطينيين. كما استخدمت هذه الحملات صوراً وتقارير توثق جرائم الحرب الإسرائيلية الوحشية في غزة. وطالبت بمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب ووقف العدوان النازفاشي فورا، وادانت الدعم الكبير للدول الغربية للعدوان والفصل العنصري والابادة الجماعية والتدمير الشامل للعمران والمؤسسات التعليمية والدينية والبنى التحتية عموما.
لعبت النائبة الأيرلندية في البرلمان الأوروبي كلير دالي دورا جريئا في مواجهات صريحة في البرلمان الأوروبي والشارع الاوروبي ايضا، في وصفها العلني للكيان، بالقاعدة الاستعمارية، "إن إسرائيل تمارس سياسة الفصل العنصري ضد الفلسطينيين"، مشيرة الى أن العالم بدأ يدرك هذه الحقيقة بشكل متزايد بعد أكثر من عام من الإبادة الجماعية في غزة. وهذا موقفها المتواصل في خطبها المشاركة في قاعة البرلمان او في الاعلام الايرلندي والاوروبي، على السواء، واكدته في حديثها مع برنامج "المقابلة"، في قناة إخبارية ناطقة بالعربية إذ كشفت عن تفاصيل دقيقة بشأن تواطؤ الاتحاد الأوروبي وحكوماته - بما في ذلك حكومة بلادها- في تمكين جرائم الاحتلال الإسرائيلي. واعادت دالي الى الذاكرة واقع ارتباط الأيرلنديين بالقضية الفلسطينية، وانه "ليس مصادفة"، بل هو نتاج تجربة تاريخية مع الاستعمار البريطاني الذي لا يزال يترك بصماته على أيرلندا. وأوضحت قائلة "نعرف معنى أن تُحرم من حقوقك، وأن تُقتل عائلتك أمام عينيك، لهذا ننحاز إلى الفلسطينيين بفطرتنا"، مستذكرة مشاركتها في عشرات الحملات لنقل جرائم الاحتلال ومجازره إلى الرأي العام الأوروبي. ولم تكتف بذلك بل وهاجمت حكومتها، أيرلندا، لعدم ترجمة هذا الدعم الشعبي الواسع إلى سياسات ملموسة، واصفة مواقفها بـ"الهزيلة" و"المنافقة". واكدت دالي، كما قام العديد من النشطاء الايرلنديين مثلها، على أن "إسرائيل ليست سوى مختبر للأسلحة التي ستشعل حروبا مستقبلية في مناطق أخرى"، محذرة هي من أن الصمت الدولي يشجع الاحتلال على التوسع في جرائمه. وأدانت دالي ما وصفتها بـ"الإبادة الجماعية"، موجهة رسالة إلى الشعب الفلسطيني "أنتم لستم وحدكم، الملايين في أوروبا يصرخون غضبا، وسيستمرون حتى تحريركم". كما دعت الحكومات الأوروبية إلى تحمّل مسؤولياتها بوقف التمويل العسكري لكيان "إسرائيل" وفرض عقوبات حقيقية لإنهاء نظام الفصل العنصري، والابادة الجماعية، مؤكدة أن "الدعم الشعبي سيتحول قريبا إلى قوة سياسية تجبر الحكومات على تغيير سياساتها".
وليس اخيرا ترحيب الايرلنديين باغلاق سفارة الكيان إلاسرائيلي بعاصمتهم دبلن وتحويلها الى متحف فلسطيني، يرفع علم فلسطين، ويروي السردية الفلسطينية. وكذلك انضمام جمهورية ايرلندا الى جنوب افريقيا في طلبها محاكمة الكيان لقيامه بالابادة الجماعية والتطهير العرقي. واعترافها الرسمي بدولة فلسطين.
كل ما قامت به جمهورية ايرلندا، وقدمته رسميا وشعبيا، تجاه فلسطين، شعبا وقضية، درسا تاريخيا، اخلاقيا وانسانيا واختبارا للضمير والكرامة الانسانيين..