تؤكد سياسة الولايات المتحدة الامريكية ازاء القضية الكردية عموما (من بين القضايا الاخرى) على ازدواجية المعايير، والتعبير الصارخ عن قاعدة سياستها الغربية، التي تضع مصالحها وتغليبها على مبادئ وحقوق الانسان والقانون الدولي والشرائع والاتفاقيات الدولية قبل أي شي اخرر او اية مبادئ او علاقات عامة او حتى اوهام قيادات سياسية رسمية في صداقتها. وهي بذلك تكرس سياستها "الواقعية" التي تمارسها وتعطي مباشرة لكل من يهمه الامر ويعي ذلك صورتها الحقيقية في تنفيذ خططها وسياساتها العملية، لا شعاراتها التي توظف لها آلات حربها الاعلامية والعسكرية ومحاولات تمكنها في اقناع وكسب عقول وقلوب هواتها والراقصين امام طبولها او تهديداتها. ولعل في هذه القضية دروسا اخرى وعبرا لمن يراهن بعد على ارتباطه وخشيته من جبروت طغيان الولايات المتحدة ويسابق في خدمة مخططاتها العدوانية والحربية في العالم، ولاسيما في العالم العربي وجواره.
تقارير اعلامية اشارت الى ان واشنطن بصدد وضع سياسات جديدة لها بخصوص الكرد وفي العراق خصوصا لأسباب تعيدها الى احتجاجات كردية رسمية بعد هزيمة العسكرية الامريكية في العراق والمنطقة وطلبات تجديد واستمرار جدران الحماية الامريكية وعدم الرد المباشر أو تقبل اغراءات (خطط) بعض القيادات الكردية الموفرة لتسهيلات او خدمات تنفيذ سياسات الهيمنة الامبراطورية الامريكية، خصوصا في توسيع قواعد الاستراتيجية الامريكية وصولا الى شمال العراق جغرافيا بعد جنوب تركيا. (نقل بعض مهمات قاعدة جنريلك التركية وامتداد ساحات حلف الناتو ونفوذه العسكري خارجها)!. وكذلك التدريب والتسليح العسكري، ازاء خطط الادارات الامريكية في المنطقة على امتداد حدود ايران وسوريا. وتتوازى الهواجس الكردية امام سياسات واشنطن في المنطقة مع محاولات قيادات كردية ترغيبها او خدمتها مع علمها بكره الشعوب للسياسات الامريكية العسكرية والعدوانية المفضوحة ومقاومتها بكل السبل المشروعة. وهنا تناقض هذه القيادات الكردية العراقية نفسها وهويتها القومية في صمتها او قبولها لرؤية ما تمارسه الادارات الامريكية في معالجة القضية الكردية في البلدان الاخرى، لاسيما في تركيا، عضو حلف شمال الاطلسي/ الناتو وقواعدها العسكرية فيها، وتعاملها مع كرد تركيا، والسماح لتركيا باستخدام كل وسائل القتل والإرهاب ضد الكرد. هذه المواقف لبعض القيادات الكردية يضعها هي الاخرى في ازدواجية تعامل سياسي وأخلاقي مع تطورات وتحولات الثورات والانتفاضات الشعبية في المنطقة الآن وما يهم الكرد خصوصا.
تأكيدات الادارة الامريكية لقيادات كردية معينة ولاسيما العراقية منها، (زيارة مسعود البرزاني لواشنطن)، على علاقات استراتيجية، لا تغير في معادلات السياسة الامريكية في المنطقة، بل تضعها من جديد امام نفسها في تفضيل مصالحها الاساسية على حسابات كل الشعوب وحقوقها المشروعة في المنطقة. الامر الذي يجعل الازمات المفتعلة او الواقعية جزء من السياسات المرسومة او التي تخطط للمنطقة وتوظيف القوى الفاعلة فيها حتى ولو كانت بالضد من المصالح الوطنية والإرادات الشعبية. وما يلفت الانتباه في كل ما يحصل الان في هذه القضايا والأمور تنافس قيادات في توتير الاوضاع السياسية وصناعة ازمات خطيرة لها ابعاد كثيرة لا تعبر بالتأكيد عن مصالح وخيارات الشعوب ولا تخدمها وقد تؤدي الى حروب وتقاطعات استراتيجية تخلط الاوراق وتضيع كثيرا من الاهداف التي يدعى انها منشودة منها.
صحيح مثلا أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما ونائبه جو بايدن التزام الولايات المتحدة بالعلاقة التاريخية مع إقليم كردستان العراق في إطار شراكة استراتيجية مع عراق ديمقراطي وموحد، كما أفاد البيت الأبيض بأن أوباما انضم إلى اجتماع بين بايدن و"رئيس" إقليم كردستان مسعود البرزاني، في زيارته واشنطن مؤخرا، وجدد المسؤولان الأمريكيان التأكيد أن "الولايات المتحدة ملتزمة بعلاقتها الوثيقة والتاريخية مع كردستان والشعب الكردي، في إطار شراكتنا الإستراتيجية مع عراق فيدرالي وديمقراطي وموحد"، ولكن اسلوب أوباما وبايدن في "تشجيع البرزاني على الاستمرار في الالتزام في العملية السياسية العراقية، تحت راية الدستور العراقي" تقول بغير ما تحمله الكلمات، خاصة حين يتم ربط الموضوع هذا مع ما سبقه من خطابات للبرزاني في اربيل قبل سفره الى واشنطن وما حملته من مشاريع ووعود وأوهام. كما ان ما نشر عن نتائج الزيارة ووقائع الحال اشارت الى تراجعات في كلا الموقفين، القيادي الكردي العراقي وخطاباته النارية واتهاماته الصارخة للقيادة العراقية المركزية وحتى الادارة الامريكية في العراق، وكذلك من قبل الادارة الامريكية في لغتها التي تدعي لفظا التزاماتها وشراكتها التاريخية مع الاقليم والكرد في العراق، وفي ذات الوقت تغض النظر ولم تتخذ اية بادرة لإيقاف الحملات العسكرية على المناطق الكردية، في تركيا والعراق. هذا في ما يخص القضية الكردية اما ما يخص العراق فالملفات التي طرحها البرزاني في واشنطن ظلت مطوية هناك، كما سرب عنها، بانتظار الوقت الذي يناسبها ويخدم استراتيجياتها وخططها الاخرى في المنطقة. اذ ان الرئيس الامريكي مشغول في حملات الانتخابات وإعادته لدورة اخرى في البيت الأبيض، وتركيز الاهتمامات الى اوسع من عروض صغيرة خارج الاطار وابعد منه.
ما ورد في تقرير نُشرته مجلة "فورين بوليسي" وسلّطت الضوء فيه على "تبعات تدليل أميركا لإقليم كردستان" وعرض المنافع المتبادلة بين الطرفين قبل الغوص فيما يمكن أن يجره ذلك نتيجة "الدعوات الخاطئة التي لا ينفك أعضاء من الكونغرس ومراكز الأبحاث وغيرهم يحثون فيها لعلاقات مميزة بين امريكا والإقليم"، يكشف شكوك عدد من المراقبين الامريكيين الذين يحذرون من التمادي في "التدليل" والانتباه الى الشعب العراقي كله، والاكتفاء بما قدمته الادارة الى الكرد من منافع كبيرة جدا، ليس اقلها شانا مواد الدستور، والفيدرالية، والحصص المالية من الميزانية المركزية والتغاضي عن رسوم الحدود وتنقيب شركات النفط وغيرها من الموارد المالية الضخمة.
لاشك ان الادارة الامريكية تجدد في تقييماتها عن الكرد والعراق وتحسب الى عوامل كثيرة فيها مثل العامل الاسرائيلي، والحدود مع جيران العراق وغيرها، مما يضع الامور كلها في بؤرة صراعات المنطقة ومستقبل شعوبها. ويدعو الجميع الى ضرورة الانتباه والتبصر لها.