في كتابه الذي ترجم قسم منه إلى اللغة العربية تحت عنوان: حرب الخليج.. دفعتني للاستقالة، والمنشور نهاية عام 1992، كتب وزير الحرب الفرنسي السابق جان بيير شيفنمان أسباب استقالته من وظيفته والعوامل التي دفعته إلى ذلك مع إشارات إلى أهمية بلاده، فرنسا، في المنظومة الدولية ومواقفها التي بنيت عليها كدولة أوروبية لها تاريخها ومصالحها. وفي كل ما كتب من سيرته الشخصية ومواقفه الفكرية ودفاعه عن كرامة الجمهورية التي آمن بها وسعى إلى إنقاذها من ان تكون تابعة لسياسات غيرها ومناقضة لمبادئ الجمهورية التي أقيمت عليها.
وضح شيفنمان أن ".. فكرة ثابتة عن الجمهورية هي التي جعلتني اطلب إليكم السماح بإعفائي من المهمات التي شرفتموني بإسنادها إلي.." هذه الجملة التي تصدرت رسالتي القصيرة لرئيس الجمهورية لم يخطها قلمي إلا لأنها تعكس النضج البطيء لتفكيري خلال سنين.. وإذا كانت حرب الخليج السبب الحاسم والمباشر لتركي الحكومة إلا أنها لم تكن المبرر الوحيد. من المؤكد ان وزير الدفاع، الذي يطلع عن كثب، على الأمور الهامة، بحكم عمله، يمكن ان يقدر العلاقة بين الغابة والوسائل ويقيس المسافة التي تفصل الواقع عن الصورة المعطاة له. لهذا لم يكن باستطاعتي البقاء في هذا المنصب دون ان الغي نفسي". وفي كل الجمل التي كتبها الوزير وسجلها في مذكراته وضحت الفروق والتناقضات بين الأسس والقيم والأخلاق التي تعلنها حكومات الغرب عموما وتطبقها في الواقع ولاسيما مع بلدان العالم الثالث، وخصوصا العالم العربي. وهناك فصول كاملة عن هذه المواضيع وأحداث وقائعها التي تفضح سياسات الغرب وعلاقاته مع الحكومات العربية والفضائح المقابلة للحكومات العربية وتبعيتها لتلك السياسات وخدمتها للمشاريع والخطط العدوانية على الشعوب ومصالحها الإستراتيجية الوطنية والقومية.
ذكر الوزير المستقيل: "أما الملاحظات التي أبديتها فقد انتهت إلى النتيجة التالية: ان الصرامة والتضامن يجب ان توجهها سياستنا، ولكن يجب ان نفضل الحل السياسي في الإطار العربي. وان نتجنب بأي ثمن الاستسلام للدخول في آلية تؤدي إلى انزلاق قواتنا في القتال، لان أهدافنا السياسية ليست هي أهداف الولايات المتحدة وإسرائيل!.." وبعد هذه الإشارة الواضحة لصاحب القرار الأساسي في امن وسلام المنطقة، كشف التواطؤ الرسمي، على الصعيدين الأوروبي والعربي. إذ بدون ذلك لا يمكن ان يتم احتلال العراق وتدمير المنطقة وفرض الهيمنة العسكرية والاقتصادية والتطبيع وتبهيت القضايا المركزية في العالم العربي. كاشفا أسرار الإدارات الغربية في التحكم بالقرار السياسي العربي ومصير البلدان والشعوب. فمثلا سمى ما كشف النقاب عن "احد الأسرار التافهة بحد ذاتها (وكان فحوى هذا السر نوعا من الكلام الفارغ مآله: من اجل ان يفعل حصار العراق الفعل المطلوب منه، كان يجب القيام بهجوم مسبق). وبعد هذا السر نشر الوزير أسرارا اخرى لاستقالته وزياراته إلى المنطقة ولقاءاته مع حكامها وما تضمنته من "أسرار حقيقية"!. وخلص مما حدث فعليا على الأرض إلى إحساسه العميق بطبيعة الحرب غير المتجانسة على العراق، "لان الولايات المتحدة لم تفعل شيئا، ولم تسمح لأحد ان يفعل شيئا جديا لتجنبها بل على العكس تماما!. ونظرا لأنني كنت أعيش هذا الإحساس منذ ستة اشهر لم يعد بإمكاني إلا ان اعترف بالطبيعة المدمرة لهذه الحرب، وان توسيع العمليات الحربية لتشمل القدرات العراقية بأكملها لا علاقة له بقرارات هيئة الأمم المتحدة.. هذه الهيئة التي أدانت، قبل عشر سنوات، تدمير المفاعل النووي "تموز"(يوليو) من قبل الطيران الإسرائيلي، وتغطي اليوم دمارا رهيبا أعظم بكثير من "تدمير تموز" يتناول جميع البني التحتية الضرورية لحياة بلد حديث!!".
لقد سجل هذا الوزير الفرنسي لحظات حرب مخططة وموجهة ومنتظمة على بلد عربي، عبّد حكمه الطرق لها، وبمساعدات متعددة من حكومات عربية وبأموال عربية وتنفيذ حكومات أوروبية لأهداف غربية وصهيونية. وهنا يصح السؤال عن دروس التاريخ فيما يراد له ان يتكرر في العراق وغيره من البلدان العربية، ومتى يستفيد أصحاب القرار منها؟!. فأشار إلى ان بلده تطورت أهدافها، في الحرب على العراق مع استمرار الحرب نفسها، و"لذلك أصبح بقائي في الحكومة أما انه لا يطاق!، أو لا يمكن تبريره!... وهكذا تحول أولئك الذين كانوا في مطلع السبعينات يتبنون سياسة التعاون مع العراق، - لكي لا أقول التحالف - إلى دعاة حرب ويطالبون باشتراك فرنسا بتدمير العراق والمساهمة "بحصة الكلب هذه!"..".
استقال الوزير بعدما رأى كيف جرت الحرب ومن خطط لها وأين موقف بلده منها وتصارع قيمه معها وصولا إلى قراره الذي أكد فيه الشعور بالواجب أكثر التزاما من جميع الاتفاقيات التي لا تحترم الحاضر وتستهين بالمستقبل. وفضح استخدام الأمم المتحدة لخدمة المخططات الامريكية مثلما هو حال حكومة بلده. وكوزير حرب فرنسي فما كتبه شهادة إدانة للسياسات الغربية عموما وللأمم المتحدة التي تنتهك ميثاقها وتحمي مشاريع العدوان والحروب التي تخطط لها الادارة الامريكية ولأهداف لا تضمن الأمن والسلم في العالم.
اختصر ناشر الكتاب على غلافه الأخير قصة الكتاب والاستقالة بأثر الخسائر البشرية التي عدت حينها بما يقارب مائة ألف إلى مائتي ألف إنسان فقدوا حياتهم في حرب الخليج ثمنا لهذه العملية البوليسية الدولية، وللدرس الافتتاحي لنظام دولي جديد، ينوي بواسطته جورج بوش إعادة بناء الهيمنة الامريكية غداة انتهاء الحرب الباردة..(..) وان وجهة نظر المؤلف هذه تكتسب أهميتها من انه وزير لدفاع فرنسا، استقال بسبب موقفه الخاص من حرب الخليج، واحتجاجا على عدم التوازن في موقف أوروبا إزاء الهيمنة الامريكية بعد الحرب الباردة.
كلمات أو اعترافات واضحة تفضح وتسجل للتاريخ مرحلة مرت على العالم، والعربي منه خصوصا... فهل قرأت بتفاصيلها ومتى يحصل التوقف عندها والاستفادة من عبرها؟.