الاثنين، 25 أكتوبر 2010

في أوروبا.. الحكومات نحو اليمين والمواطن نحو اليسار

الجمعة 22/10/2010
تتفاقم الأزمات في أوروبا بين الحكومات المنتخبة ديمقراطيا، (وأحزابها من يمين الوسط أو يسار الوسط)، والمواطن الأوروبي الذي شارك في انتخابها. فهي تتجه نحو اليمين المحافظ وبعضها الى المتطرف، في قراراتها وقوانينها التي تصدرها، والمواطن الأوروبي واغلبه يتجه نحو اليسار عموما في مطالبه واحتجاجاته اليومية المدافعة عن المكاسب التاريخية التي حققها بنضاله وتضحياته. وضحت ذلك الإضرابات التي حصلت في بعض العواصم الأوروبية لأيام متتالية، واغلب الشعوب الأوروبية التي تغلي غضبا وتذمرا وتضطر إلى ممارسات احتجاجية حادة للإعلان عن رفضها لما تقوم به تلك الحكومات من إجراءات وقوانين تقشفية صارمة. تزعم أنها بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية وتداعياتها الاقتصادية على الاقتصاديات الأوروبية، من جهة ومساعيها لإيجاد مخارج لها وحلول تصب في تصوراتها لإنهاء الأزمة أو للتقليل من أضرارها عليها ثانيا، ولكنها تنتهي إلى سلب المكاسب الاقتصادية للرفاه الاجتماعي والتضييق على حياة الطبقات المتوسطة والشعبية التي لا تساعدها دخولها الواطئة أساسا في مواجهة تكاليف الحياة الأوروبية المتصاعدة الغلاء والتناقض الواسع بين ارتفاع الأسعار وتقليص الدخول وزيادة الضرائب، وكلها فوق إمكانيات الطبقات الاجتماعية الشعبية على تحمل أعباء تلك المعالجات الفوقية. وانعكست تلك الممارسات سلبا على أمزجة الناخبين الأوروبيين واتجاهات فرزهم السياسي، وعلى زيادة إحباطهم من ترهل الأحزاب الحاكمة لعقود متتالية دون ان تساعدهم على حل تلك الأزمات بالطرق السليمة، وتعود الأسباب في الكثير منها إلى سوء إداراتها وارتباطاتها بقوى الرأسمال العالمي وقبول عولمة الأزمات الاقتصادية على حساب الطبقات الشعبية والضغوط عليها وحدها مما يدفعها إلى الرد عليها برفض المشاركة في الانتخابات أو التصويت إلى قوى يمينية متطرفة في توجهاتها وبرامجها السياسية وحتى شعاراتها الانتخابية. وهذا ما حصل في الشمال الاسكندينافي والأوروبي، في الدانمارك والسويد وهولندا وبلجيكا. وسبقته فرنسا وألمانيا وبريطانيا. وهو من جهة أخرى تعبير واضح عن حدة الأزمات وتفاقم أعبائها وغياب الوعي الطبقي بنقدها ومعالجاتها الصحيحة.
إزاء سياسات التراجع عن أنظمة الرفاه الاجتماعي وتغيير قوانين التقاعد وتشريع استقطاعات كبيرة في التعليم والصحة والدفاع وفرض ضرائب جديدة أو زيادة المفروضة منها بمعدلات عالية في معظم بلدان أوروبا اضطرت الطبقات الشعبية فيها، ممثلة بقوى اليسار والنقابات العمالية واتحادات الطلاب والموظفين وتحالفات ضد الحرب والدفاع عن حقوق الإنسان والبيئة والخضر والمنظمات الإنسانية، إلى العمل المباشر في الشارع للرد على تلك السياسات الاقتصادية والسياسية على السواء. وهكذا إزاء توجه الحكومات وصناديق الانتخابات نحو اليمين يتجه اغلب الرأي الشعبي السياسي الأوروبي الآن نحو اليسار. معلنا مواقفه بوضوح ضد إقرار قوانين التقشف الوحشية والعنصرية وصراع الحضارات والثقافات ومناضلا من اجل سياسات اقتصادية عادلة تحمي الطبقات الشعبية والمتوسطة وتخفف عليها من سطوة الاستغلال الرأسمالي الخانق ونحو تسامح إنساني واسع للأقليات الاجتماعية والفكرية في أوروبا، وتقويم تلك السياسات المتورطة في الأزمات الاقتصادية والحروب الخارجية وتبديد ثرواتها فيها لفرض الهيمنة واستعمار الشعوب والبلدان الأخرى. ورغم غياب تنظيم موحد وجامع لمثل هذه التحركات الاحتجاجية، إلا ان الإعلانات المشتركة تسهم وأسهمت في تحريك المواطن الأوروبي.
زادت السياسات الجديدة في أوروبا من ارتفاع عدد الباحثين عن العمل إلى أرقام كبيرة ودفعت الأزمات الاقتصادية وخطط اليمين الأوروبي في تعميقها إعدادا كبيرة إلى الشارع. حيث بلغ معدل نسبة الباحثين عن العمل في الإتحاد الأوروبي (الذي يضم 27 دولة) 9,6 % ( حوالي 24 مليون) من القادرين على العمل، وبلغ في منطقة اليورو (التي تضمّ 16 دولة) 10,1 % (حوالي 16 مليون عامل)، وتبلغ النسبة في أسبانيا 20,5 %، وأيرلندا 13,9 % والبرتغال 10,7 % واليونان 12,2 % وفي دول البلطيق تراوحت بين 18,2 % في ليتوانيا و 19,5 % في لاتفيا... وفي ألمانيا، 6,8 %. (مكتب الإحصاء الأوروبي "يوروستات" 01/10/2010). إضافة إلى إفلاس مؤسسات اقتصادية عديدة وتوسع انعكاساتها التنموية وتداعياتها التقشفية في إفقار فئات اجتماعية جديدة.
مقابل هذا التدهور العام برزت التظاهرات والاضرابات لأيام محددة كإنذارات أولية في شوارع العواصم كلا على انفراد، أولا، ومن ثم الدعوة إلى إضرابات عامة، ابتداء من يوم 29 من ايلول/ سبتمبر الماضي، الذي تمت فيه في مختلف العواصم الأوروبية، ثانيا. وقال حينها جون مونكس الأمين العام للاتحاد الأوروبي للنقابات "نزل العمال إلى الشارع اليوم مع رسالة واضحة إلى قادة أوروبا: ما زال الوقت سانحا لتفادي التقشف وتغيير الاتجاه". وحذر من أن تطبيق تدابير التقشف التي اتخذتها معظم الدول الأوروبية لخفض العجز "سيكون له آثار كارثية على الأفراد والاقتصاد". فانطلقت التظاهرات والاضرابات في بروكسل وفي اسبانيا التي شهدت إضرابا عاما خصوصا في مدريد وبرشلونة. كما عمت التحركات الاحتجاجية البرتغال وبولندا وايرلندا وايطاليا وصربيا ولاتفيا ورومانيا والتشيك وقبرص وفرنسا وبريطانيا. وقدمت فرنسا مشروع موازنة تقشفية بدعوى العجز العام غير المسبوق، مع مشروع إصلاح نظام التقاعد بزيادة عامين أخريين، واجهته النقابات العمالية وفئات أخرى معها كاتحاد الطلاب باحتجاجات وتظاهرات عامة وتحديد مواعيد متتالية للإضرابات والتلويح بالإضراب المفتوح.. وفي بريطانيا أعلنت نقابة عمال النقل في قطارات الإنفاق إضرابات متتالية ووعدت باستمرارها. واستمرت التظاهرات والاضرابات متواترة من شهر ايلول/ سبتمبر في فرنسا وايطاليا وبريطانيا، وإعلانات عن أيام مشتركة في باقي أوروبا.
بعد هذه الأوضاع والتوجهات طالب قادة يساريون تحمل مسؤولية قيادة التحركات الشعبية واستمرار المواقف النضالية الحاصلة فيها. كما أكدوا على ضرورة تصعيد مطاليب النقابات والاتحادات الأوروبية وانتقاد غياب تحضير واسع وعام للحركة العمالية بوجه هجمة التقشف الراهنة ومشاريع ما تسميه الحكومات بالإصلاح الاقتصادي وفي حجم تلك الخطط المعلنة، معتبرين من دروس سابقة اخفق اتحاد النقابات الأوروبية في الرد عليها والتصدي للتمثل بها وتمريرها. لاسيما إجراءات التقشف التي ضربت بلدان البلطيق وايرلندا وأوربا الشرقية منذ 2008- 2009، وكذلك خلال الأزمة اليونانية المديدة.
كما سجل كتاب ومحللون سياسيون دهشتهم من ضعف ردة الفعل الشعبي عموما على مثل هذه الإجراءات القاسية، وهي ظاهرة ملفتة، ولكن الإضرابات التي حصلت والمواعيد الجديدة لها تضع الحركة الشعبية والنقابات العمالية خصوصا أمام مسؤولية تاريخية تثبت فيها دورها ووعيها في حماية مكتسباتها ونضالاتها ومصالحها الأساسية، وتدعو نحو التغيير الحقيقي للسياسات التي أدت إلى هذه الأزمات والإجراءات التي قد تقود الى تحولات خطيرة، ونحو انتباه من جديد إلى الخيارات المطلوبة وعدم الركون إلى خداع الحكومات وأحزابها وبرلمانيها وحتى بعض القيادات النقابية!.