الخميس، 28 يناير 2010

عودة الأمية في العراق الجديد

الجمعة 22/1/2010
مفزع ما صرح به مسؤول تربوي عراقي مؤخرا عن نسبة وحجم الأمية في العراق الجديد. وكأن ما لحق بالشعب العراقي خلال تاريخه غير كاف لتلاحقه إنسانيا واجتماعيا أوبئة لا تختلف عن الطاعون والفيضانات والكوارث الأخرى. وكانت جمهورية العراق قد تمكنت من التخلص من هذه الآفة الاجتماعية الثقافية، منذ زمن بعيد.. وقد عدت الأمية الأبجدية والثقافية وتعد مقياسا للتخلف الحضاري والإنساني، وإشارة لفشل خطط التنمية البشرية، ونقصا فادحا في إدارة السياسات الثقافية والمستقبلية في هذا العالم.
أما ان تعود مرة أخرى، أو تستنبت من جديد وبهذا الشكل والأرقام الرسمية الصارخة فأمر يتطلب أكثر من وقفة وتأمل وتفكير ونداء بأعلى صوت والى أعلى مدى. العراق والتنمية البشرية ومستقبل الأجيال فيه موضوع خطير وملف ينبغي ان يكون في أوليات العمل السياسي، الرسمي والشعبي، وان تكون هذه الأرقام والنسب محفزا كبيرا لإعادة النظر بالأسباب والمسببات وقراءة اللوحة بتمعن ودراية وجدية وإخلاص، بل ان التخطيط والحرص على إنهاء هذه الآفة قد يكون سمة وطنية أعلى من غيرها في الحرص على بناء الوطن وتنمية قوته البشرية، لأن التعليم والعلم مفتاح فعال في يد المجتمع المعاصر ودليل على تقدمه وتطوره.
حسب إخبار يوم (20/01/2010) دعا مسؤول عراقي كبير إلى تشريع قانون محو الأمية في العراق بسبب اتساع اعداد الأميين في المجتمع العراقي بنسبة مقلقة وصلت إلى خمسة ملايين أمي خلال العام الماضي. قانون محو أمية من جديد؟. ماذا يعني مثل هذا النداء في هذا الزمن الذي تتسابق فيه البلدان والشعوب بنسب التفوق العلمي والتواصل مع آخر تطورات الثورة التقنية وشبكة الانترنت وفضاء الاتصال المفتوح، فكيف يمكن ان يصير بلد وشعب بما عليه الآن، وتعود الحالة إلى قانون لمحو الأمية.. أين المسؤولية ومن هي الجهات التي تتحملها ولماذا التهرب منها؟. خمسة ملايين أمي، مسجل رسميا، غير قادرين على القراءة والكتابة، في بلد مثل العراق أمر مثير وغريب على المنطق والواقع، إلا إذا عرفت الأسباب وبطل العجب فيها، إلا أنها أرقام كبيرة، حيث تعني ان واحدا من خمسة مواطنين عراقيين يجهل القراءة والكتابة..أمية أبجدية.. فكيف يكون العدد إذا أخذنا بمقاييس الأمية الثقافية؟. ولنقرأ ما قاله المسؤول أيضا: “إن العراق الآن يعاني من ازدياد نسبة الأميين بنسبة مقلقة جداً ويجب التسريع بتشريع قانون محو الأمية الذي قدم منذ عام ونصف العام على طاولة مجلس النواب ولم يصادق عليه، فضلاً عن عدم تخصيص دولار واحد من موازنة الدولة لعام 2010 لمشاريع إقامة دورات محو الأمية، وأن البيئة العراقية الآن أصبحت ممتازة جداً لانتشار الأمية ولا غرابة إن قلنا إن أعداد الأميين في العراق بلغ 5 ملايين عام 2008 و2009 بينما عام 1991 انتهت ولم يبق أي أمي في العراق”. وهنا لابد من قراءة تحليلية وسياسية لتاريخ هذه التجربة في العراق ومقاربتها عربيا أو إسلاميا وحتى دوليا. ان تجربة مكافحة الأمية في العراق تعبر عن مستويات عالية وصلت لها حالة التعليم والثقافة العامة في العراق، وجهود كبيرة وإرادات وطنية نظمت وخططت بإخلاص للتخلص من هذه الآفة وتجاوزها وتطوير الشروع بخطط للتنمية البشرية، خلاف ما حصل في الزمن الجديد للعراق المحتل من قبل القوات الأمريكية ومستشاريها والقوات البريطانية وخبرائها والمتعاونين معها أو المنتظرين الإشارة منها. وأوضح المسؤول بصراحة وتفصيل ما يحصل في الواقع وأبعاده الاجتماعية والعملية “بالنظر إلى المشكلات التعليمية الحالية والمرتبطة بالوضع الاقتصادي والاجتماعي والأمني فإن العملية العلمية الحالية تزداد تعقيداً إذا ربطنا ذلك بالمتغيرات الحاصلة في البلد بعد عام 2003 وما أفرزته من تحولات على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي التي رمت بظلالها على الواقع التعليمي العراقي”. وقال المسؤول العراقي “إن غالبية التلاميذ المتسربين من المدارس هم من المرحلة الابتدائية وتحديداً في الصف الخامس الابتدائي لصعوبة المنهج وهذه حقيقة لا تخفى على الكوادر التعليمية ويمكن ملاحظة غالبية التلاميذ المتسربين من المدرسة هم في تلك المرحلة وهناك دراسات وإحصائيات تؤكد ذلك لذلك أصبحت هذه الظاهرة خطيرة جدا في السنتين الأخيرتين 2007 و2008 وازدادت عما كانت عليه عامي 2006 و2007” . هل يعقل هذا الكلام الآن؟ والى ماذا يؤشر عن تأثيره وعلاقته بالوضع السياسي عموما؟ ولماذا التباطؤ في معالجته؟.
هذا التصريح الرسمي يكشف أبعادا متعددة عن هذه القضية، من بينها تأخر البت في المشروعات المقدمة، وتوزيع المسؤوليات على وزارات لم تنجز وظائفها، وعلى برلمان لم يضع مثل هذه القضية في أولياته السياسية والاجتماعية والثقافية، وعن ارتداد متعدد المستويات في الوعي الجمعي العام، وعن عودة كارثة الأمية إلى درجة مفزعة تحتاج إلى قانون جديد!!، وكأن السنوات التي مرت كانت دعوة للامية، أو هي في الواقع عملية منظمة لها، والتفرج عليها دون أي إحساس بخطورتها والعمل على التخلص منها ودرء أية إمكانية لإعادة إنتاجها بأي شكل ما، والتخطيط بجدية لمواكبة التطورات الثورية في التقنية والعلم والمعرفة عموما من مظاهر التقدم والتنمية البشرية المطلوبة.
ان عودة الأمية إلى العراق الجديد ظاهرة خطيرة جدا وان عواقبها ستكون وبالا ليس على الشعب العراقي وحده، وهي في كل الأحوال تعكس مدى حرص ومسؤولية من يتولى أمرها ويخطط لها ويفكر بأسرع وأنجع الأساليب التي تمكن من تجاوزها وانجاز قفزات تعليمية وثقافية وتحولات فكرية وعلمية على مختلف الصعد والأجيال والمجالات. حيث يكون التعليم ناجحا تكون الإدارة والجهات المسؤولة عنه قادرة على التفكير السليم بمنجزات عملها وبناء عراق جديد حقا، ولا تستعيد أو تظل في ذكريات الأيام الماضية وتداعياتها المتعبة والوقوف بعيدا عن التاريخ.