
لم افاجأ بالنبأ، لقد كنت متوقعا ذلك، منذ لقائنا في القاهرة قبل اكثر من عام. كان عائدا لتوه من باريس وسمع من الاطباء هناك ما سمعه واقتنع بالعلاج المطلوب والعودة الى مصر. من طبعه وطبيعته ان يكون بين اهله وشعبه وعلى تراب وطنه. خبر في شريط متحرك لفضائية عربية، ورغم صمت الخبر وهول الحدث وتوقعه، اسرعت ابحث في الانترنت عن تفاصيله، لم اجد كثيرا، خبر من وكالة اخبار اجنبية ينشره موقع صحيفة مصرية وتكرره مواقع وصحف اخرى. في ساعات الليل بدأت الصحف تنشر صفحات كاملة، كلمات من اصدقائه ورفاقه ومحبيه. قرات اغلبها. كلها محبة واشادة به وتعيد صياغة اقواله وكلماته وتعدد جهوده ومناقبه. تتذكره بما يليق به، قبل ان يرحل الى مثواه الاخير في مسقط راسه.
قبل ايام كتب صديق له مقالة عنه في صحيفة الاهرام، تحية له ولجهوده ونشاطه ودوره العلمي والعملي، تصورتها نعيا له، الا انه كان في ايامه الاخيرة، صديقه حدس ذلك، ومثله آخرون. كأنه اراد التمهيد دون قصد او التحضير لسماع النبأ المؤلم. الموت حق والمرض فتاك ولكل انسان نهاية. الكتابات عنه توالت، كل من عرفه او زامله او قرأ له كتب ودوّن تذكرا وتذكيرا، اشارات محمودة بمقامه العلمي والانساني والنضالي. مفكر يساري من طراز جديد، كاتب مبدع بامتياز، مناضل صلب لا يلين عن افكاره وقناعاته وحقوق الانسان. انسان ومفكر موضوعي يساري نبيل بكل معاني الكلمات. خسارة كبيرة للفكر التقدمي والبحث العلمي والصحافة الوطنية ان يفقد الان، وهو في مسيرة عطائه وشبابه ونضجه.
لم يرتض لنفسه ان يكون بعيدا عن الفقراء والمستضعفين الذين آمن بحقهم بحياة حرة كريمة. ناصرهم في مواقف عدة ودفع الثمن الغالي في هذا الوطن، سجنا وتعذيبا ونكرانا. وخرج من كل ذلك مؤمنا اكثر بمواقفه وحاجة شعبه ووطنه للتغيير والبديل، لا يمكن ان يبقى شعبه في مثل هذه المحنة. شعب تاريخه يشهد بكفاحه وفيه كل الطاقات ويكبل بقيود حكام وضعوا كل خياراتهم بيد عدوهم واستسلموا لوعوده الخادعة، واسهموا في صناعة الكارثة الفادحة. وقف الدكتور مواقفه التي تذكرها اصدقاؤه وزملاؤه وتلامذته وسكرتيرة العمل في مركز الدراسات. لم ينثن لقيود وسجون وتهديدات ولم يتوقف عندها او يتراجع عن ايمانه بارادة الشعب واستجابة القدر.
في بريطانيا التقيته على هامش يوم عمل فكري عن غياب الديمقراطية في العالم العربي، يُبحث في قاعة من مباني جامعة اوكسفورد، وكانت الحوارات والكلمات تقطر ألما وحسرة، مقارنة بالاوضاع والامكانات والخيارات والفرص والثروات. تبادلنا الاراء واجمعنا على ضرورة البحث عن البدائل.. وتواعدنا ان نتواصل ولو الكترونيا. كنت في زيارة للقاهرة بعد عودته من الجولة الاولى من معالجة المرض الخبيث في باريس .. وتقابلنا في مقهى فندق وسط القاهرة التي نحب. قبل ان نصل الموعد كان قد حجز المكان منتظرا وبكل شوق واحترام ودهشة من رسم الالام على وجهه وجسده تبادلنا اللقاء.
مثلما كان وعرفت صلبا في مبادئه، قويا في عزيمته، صامدا امام التحديات وصابرا في رد المجابهات وجريئا في صد الاغراءات، هادئا وطيبا ومهموما ومحبا ومتابعا ومحللا عميقا. اراد ان يعرف ما الجديد الحاصل في العراق، ومَن القوى التي تعمل على التحرير والانقاذ للشعب والبلاد، ومصائر الاحتلال وقواته التي تمارس كل يوم حدثا جديدا بصمت وتواطؤ عربي مفضوح؟!. وبعد النقاش والجدل تطرقنا لمهمات الاعلام وتطورات التقنية وضرورة الاستفادة منها، ولمشروع "البديل" والصعوبات والحصار الذي يطوقه، من اصدقائه واعداء التغيير والبحث عن بديل حقيقي، يساري حضاري جديد. نقلت له فكرة سمعتها من جوزيف سماحة، في الدار البيضاء، اثناء انعقاد دورة المؤتمر القومي العربي، وكان مشاركا فيه وناقلا استبشاره باصدار صحيفة جديدة، مواجهة للمشروع الامبريالي الذي يغزو الوطن العربي، ويمارس معه لعبة الدومينو، ويزرع قواعده في عواصمه وقلوب وقصور الرؤساء والملوك والامراء، عن ضرورة التصدي بعزم وحسم وتوظيف كل الامكانات واستثمار كل الظروف. لا وقت للتامل والانتظار. فكرة المواجهة وعدم الرضوخ للامر الواقع... وصدرت "اخبار" سماحة يوم ذكرى انتصار شعبه على العدو، وانكار الحكام العرب له، بل مساعيهم الى محاصرته. توقفنا هنا ونحن نتحدث عن مشروعه "البديل"، وخطه الوطني الديمقراطي والحاجة الماسة له. في مصر ضرورة قصوى له. عزّ البديل وخيمت الخيبات. العمال الغلابة يحاصرون كل يوم. والفلاحون يخسرون ارضهم وماءهم يوما بعد يوم والمثقفون الجادون يعانون الكارثة والقطط السمان تسمن ولا يهمها ان يجوع الجائعون ويصرخ الكادحون. ختمت الجلسة باخباره عن مشروع كنت افكر فيه مثل مشروعه ومشروع جوزيف والاتفاق على ان يكون ضمن كتّابه من العدد الاول. وتواصلنا من بعيد... أكتب في بديله دون ان تكتمل القصة. رحل سماحة بعد فترة، جاء الى لندن معزيا بوفاة الراحلة مي غصوب فتعزينا به. وصمتت قاطرة "البديل" في مصر واجهض المشروع الذي كنت اعمل عليه، لقلة سالكيه.... وتزداد الوحشة الآن بغياب الصديق النبيل محمد السيد سعيد.
خسارة أو فقدان محمد السيد سعيد مسألة مضاعفة او مركبة، فهو ليس كاتبا ومفكرا وصحفيا وحسب، ومثققا وزميلا وباحثا وحسب. وناقدا ومبدعا ومؤرخا وحسب، ويساريا واعيا ومجددا وحسب، انه كل ذلك اضافة الى انسانيته ونبله وشهامته ومقدرته على ان يحفظ كل هذه الصفات في جسده الاسمر النحيل وفي امله في البديل الجديد لمستقبل العالم العربي. ناقوس الخطر اعلن دقاته ومحمد السيد سعيد سعيد في مشواره وقراره وبالتاكيد حزين لانه لم يكمله او يراه كاملا في حياته، ولكن ما زرعه في ارض العطاء لن يترك الميدان ولابد ان تنبت آلاف الازهار التي كان يحلم بتفتحها ونشر ضوعها في الارجاء.