الأربعاء، 21 نوفمبر 2007

باكستان.. طوارئ ديمقراطية

الجمعة 16/11/2007
ما يجري في باكستان قد لا يكون مفاجئا للمراقبين للوضع السياسي، فقد جاء الجنرال برويز مشرف بانقلاب عسكري ابيض عام 1999، اعاد الى الاذهان سطوة الدبابة على قوة القانون، وحركة الانقلاب بعد خفوتها، اثر انهيار الاتحاد السوفيتي والحرب الباردة ومحاولات استفراد الامبراطورية الجديدة في السياسة الدولية. وفي اطار مسيرة التطورات وردود الفعل عليها، التي غلبت عليها القبضة العسكرية الشديدة القسوة، لاسيما لمن قام بانقلاب واغوته القوة في رسم مستقبل بلاده، المشحونة في معظم تاريخها الجديد بموجات الدم ونزول الجيش الى الشوارع وفتح ابواب السجون للمحتجين والمتظاهرين من شتى اطياف المشهد السياسي الباكستاني واعتماد الحكم على تحالفات خارجية تدعمه وقد تدفعه الى هذا المسلك رغم تضارب المعايير على مختلف الصعد. الجنرال مشرف، اثبت كعسكري محنك، قدرته على استمرار حكمه وانكار وقائع التطورات والتحولات في بلاده والعالم، فهو يجدد موقعه في الحكم، مرة بعد اخرى، بتمسكه القوي بمنصبه ورهاناته، كلما ارتفعت بوجهه سواعد نشطاء المنظمات السياسية والمدنية، المعارضة له، وضغوطها في اجراء تعديلات جذرية او تنحيته او تخليه عن الجمع بين كل السلطات بيديه، وهي الحجة التي يعود اليها كلما شعر بقوة الشارع وتهديدات القوى السياسية المعارضة له ولحكمه وارتباطاته التي لا يهمها، رغم كل ادعاءاتها بالكلمات المعسولة والشعارات البراقة عن الديمقراطية والحرية وحقوق الانسان وغيرها، غير دوام مصالحها ومنافعها كما هو عليه الامر مع غيره من حكام وانظمة مواليه لها او متعارضة معها احيانا.
مثل اغلب الحكام العسكريين يحاول الجنرال مشرف ان يظهر نفسه بانه رجل التغيير والاصلاح والتحولات الديمقراطية، وربما يبدو لنفسه بانه اصلح لها من غيره ممن تدربوا عليها وحملوها سنة لهم في عملهم السياسي ونشاطهم الشعبي وحتى في طبيعة ارتهاناتهم وعلاقاتهم وتحالفاتهم الداخلية والخارجية. وهو الذي يحدد معانيها، او صلاحها من عدمه، وتساؤله ايها الاهم الان الديمقراطية ام البلاد، مثال على ذلك، فليست الديمقراطية هي الاساس في تفكيره العسكري، وانما بقاؤه في السلطة ومسك زمامها بيديه. واعذاره متفق عليها، تلخص في تعزيز الأمن والنظام ومكافحة الإرهاب واستخدام الجيش لمقاتلة "الميليشيات الإسلامية" في شمال غرب البلاد المضطرب وما وراءه. ومعروف انه جرب خوض انتخابات عامة، وتعامل مع رؤساء وزارات مدنيين ومناقضين لمنهجه وتمكن من تحجيم رغباتهم وسلطتهم بما يخدم حكمه وداعميه في الخارج، فهو من اشد المشاركين في السياسة الامريكية التي تسمى مكافحة الارهاب، وفي التضييق الان على التيارات الاغلب في بلاده من الاسلاميين المعروفين برفضهم لتلك السياسات الامبراطورية التي لم تحدد لها معنى ومدلولا واضحا بتقصد مطلوب وباهداف محسوبة. ورغم كل ذلك لاقت خطوته الاخيرة في فرض حالة الطوارئ تحت مسمى ديمقراطي ومحاولة منه لتفكيك صفقة جديدة، يبدو انها فرضت عليه او سوقت له دون رغبته او استشعارا منه لمخاطر ضده شخصيا فيها، لاقت اعلاميا على الاقل شجبا لفظيا يخفي وراءه تداعيات مضمرة. بدت بالوناتها ومفرقعاتها في دعوات متعددة من مصادر مختلفة، فلاول مرة تدعو "حليفته الجديدة"، رئيسة الوزراء السابقة بينظير بوتو، باستقالته، واوجب الرئيس الأميركي جورج بوش الثاني رفع حالة الطوارئ كي تكون الانتخابات التشريعية "حرة ونزيهة". واضافت بوتو مقاطعتها محادثات كانت بدأتها مع الرئيس مشرف بشأن تقاسم السلطة في المستقبل بعد الأزمة الجديدة. وهددت بالدعوة إلى مقاطعة الانتخابات التشريعية المقررة قبل التاسع من كانون الثاني/ يناير المقبل إذا جرت في ظل نظام الطوارئ الذي فرض في الثالث من هذا الشهر. وحث الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون يوم الاثنين 12/11/2007 على إلغاء حالة الطوارئ والإفراج عن الزعماء السياسيين المحتجزين. وهددت رابطة دول الكومنولث بتعليق عضوية إسلام آباد, إن لم يرفع الرئيس برويز مشرف حالة الطوارئ. كما طلبت المنظمة من مشرف تخليه عن منصبه قائدا للجيش والإفراج عن كافة المعتقلين منذ تعليق الدستور, بالإضافة إلى رفع القيود عن الصحافة, والعمل من أجل إجراء انتخابات "حرة ونزيهة".
الجنرال مشرف أعلن الأحد 11/11/2007 أن انتخابات عامة ستجرى بحلول التاسع من كانون الثاني/ يناير القادم لكنه امتنع عن تحديد موعد لإعادة العمل بالدستور وقال إن حالة الطوارئ ستضمن إجراء انتخابات "حرة نزيهة"!. ورد على تصريحات بوتو بصعوبة استمرار الصفقة معها، وقد تكون تصريحاته واجراءاته مؤشرات الى بداية فترة اخرى من الصراعات المفتوحة معها وحزبها ومع المحكمة الدستورية التي هي الاخرى لا ترى في مشرف، كما يبدو او كما خطط مسبقا، نموذجا للمرحلة القادمة.
حالة الطوارئ اذن الحل لكل هذه المتغيرات والاشكالات، ومشرف وهيئة اركانه لديهما قدرات الاستباق وقوة التغيير او الانقلاب. وهي تفتح بابا اخر امام مشاريع ومخططات الادارة الامريكية التي دعمت مشرف اولا وعقدت الصفقة معه لتقاسم السلطة واستقرار الوضع لما ابعد منه ثانيا. وهذه كلها تسبب بشكل اخر متاعب لاستراتيجيات الادارة الامريكية الا اذا كانت ضمن ما سمته الادارة نفسها بالفوضى الخلاقة هنا ايضا، وقد تكون اشارة لاستمرارها في صناعة بؤر التوتر واشعال الحرائق في كل قوس الامن والنفط والغاز في المنطقة. ورغم ذلك فان ما بعد حالة الطوارئ غير معروف العواقب، وقد يكون الرد اقوى من فعله وتاثيره.
اذن طوارئ ديمقراطية ونهاية صفقة لبداية ثانية، لون الدم والقمع البوليسي فيها غالب من اجل اهداف متناقضة لللاعبين على الساحة وخارجها. ومن مثال باكستان تنتشر تسميات جديدة في الفقه السياسي الامبراطوري مثل: طوارئ ديمقراطية، لضمان حرية الانتخابات وشفافيتها!!.