عاد الرئيس فلاديمير بوتين بانتخابات الأحد (4/3/2012) فائزا بنسبة لا تحتاج إلى جولة اخرى، وتتيح له إدارة الاتحاد الروسي لست سنوات قادمة بدءا من يوم إعلان التنصيب في السابع من الشهر الجاري في الكريملين.. وفي هذه العودة مؤشرات كثيرة تضع روسيا فيها نفسها مرة اخرى في صدارة المشهد السياسي الدولي.
خلال الأيام الماضية انشغل الإعلام والرأي العام، ليس في روسيا وحسب، وإنما في العالم كله في صور وبرامج ونشاطات وأخبار الانتخابات الروسية. وكان قد شكل إعلان ترشح بوتين للرئاسة مصدر قلق لحكومات الغرب وبعض زعمائه لما عرف عن طموحاته الكبيرة لبناء دولة قوية وقطب سياسي مؤثر على الساحة الدولية، وصرح هو بجرأة وقوة، كما عرف بهما، أكثر من مرة عن دعمه لتطوير القوة العسكرية الروسية، واهتم من خلال فترتي حكمه السابقتين في التعامل بكفاءة عالية مع الأوضاع الاقتصادية والتنمية والتطوير والتحديث فيها، حيث استطاع انتشال روسيا من الانهيار التام الذي وصلت إليه في عهد سلفه بوريس يلتسين ليصبح اقتصادها الآن سابع اقتصاد في العالم، وتصبح إحدى الدول مع الصين التي تعبر الأزمة المالية العالمية ولا تعاني منها مثل غيرها من الدول الأوروبية التي تستجدي المساعدات المالية لإنقاذ نفسها والوحدة الأوروبية من الانهيار والتفكك على مختلف الصعد.
عودة الرئيس بوتين هذه المرة محملة من بدايتها بالعديد من التحديات المتنوعة والصعبة عموما، داخلية وخارجية. وربما الأخيرة أكثر من الأولى، وتسعى الا تتركه على حاله، كما يقال. فالغضب الغربي منه ومن سياسات بلاده الجديدة، لاسيما بعد تكرار الفيتو (حق النقض) في مجلس الأمن والتعاون والتنسيق مع الصين، وربما مع غيرها من الدول الكبرى أيضا، كالهند والبرازيل وجنوب إفريقيا يزيد عليه من العداء أكثر من الصمت أو القبول بالنتائج الحاصلة بهدوء. ولعل إشكاليات ما يحصل حول روسيا من تغيرات تجعل من عودته ونجاحه في كسب الرأي العام الروسي قبل غيره ورغم كل الحملات ضده بوابة اخرى لعودة روسيا من جديد دولة كبرى تصارع بقوة ومنافسة مع غيرها من القوى الرأسمالية الدولية. وكانت الإشارات التي بعث فيها كافية لوحدها في إثارة القلق من عودته أساسا. لاسيما فيما رأى مراقبون اطروحاته في القضايا التي سجلت في إطار الصراعات بين روسيا والغرب. كما هو الحال مع الدرع الصاروخية الامريكية ومواقع انتشارها والمطالبة بضمانات فيها وحولها، وتوسيع حلف شمال الاطلسي (الناتو) شرقا وامن الطاقة وإمداداتها والغاز الطبيعي والعلاقات الدولية في محيط روسيا الجنوبي، والتنافس الدولي بين دول وأسواق النفط والغاز وطرق إمدادها والمتاجرة بها سياسيا واقتصاديا. فضلا عن المشاكل المحيطة بها أو القريبة منها والمتعلقة بمكانة ودور روسيا العالمي، واختبارات النزاعات فيها، والخلافات مع الغرب والولايات المتحدة خصوصا، في قضايا مثل الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان في روسيا وأضيف لها الملف الإيراني النووي والوضع في سوريا وتطورات المنطقة العربية عموما.
كل هذه المتغيرات والتحولات دفعت بالرئيس بوتين ان يؤكد في مقالات له، سواء في موقعه الالكتروني أو الصحف الروسية، على استعادة روسيا لموقعها خلال السنوات الأخيرة بين القوى العالمية الرئيسية. راسما بخطوط عريضة سياسة بلاده الجديدة، وبالتأكيد سيعمل في ضوئها خلال عودته الجديدة التي تم توقعها قبل إعلانها. حيث أشار إلى ان بلاده في مكانتها الحالية وقدراتها "تؤهلها للعب دور أوسع وتجعل مشاركتها في الشؤون الدولية ضرورية أكثر فأكثر". وبتلميح واضح نحو الولايات المتحدة، اتهم دولا قال إنها تحاول تصدير الديمقراطية بالوسائل العسكرية وتوتير العلاقة بين الجماعات والاثنية ... وكتب ان موسكو تستطيع بل يجب ان تلعب دورها في التصدي لمحاولات انتهاك القانون الدولي.. ، مشيرا إلى أن هذا "أحد واجبات روسيا كدولة ذات تاريخ حافل وموضع جغرافي يفرض عليها ان تتعامل مع الحضارة الأوروبية والحضارة الشرقية على السواء".
بعد عودته تتجه الأنظار إلى أولوياته على مختلف الصعد، وبانتظار ذلك تجمع اغلب التوقعات ان السياسات الروسية في الشؤون الداخلية سيوليها اهتماما أوسع من ذي قبل، حسب تصريحاته وخطبه، ويعيد النظر في تعامله مع ملفاتها والاستفادة من انتقادات الغرب له وللسياسات الداخلية عموما. وكذا الحال مع السياسات الخارجية والقضايا التي تمس المصالح الكبرى لبلاده وللأمن والسلم الدوليين. لاسيما في محيطة الجغراسياسي والتحالفات والمعاهدات الجديدة التي دخلت روسيا فيها طرفا رئيسيا. إلا ان ما عرف عنه من صلابة في المواقف ومواجهات صارمة في الدفاع عن المصالح الإستراتيجية الروسية لا تعني انه لا يتعامل بمرونة مع القوى الدولية الأخرى، وفرض التبادل بينها في المصالح المشتركة وحل الصراعات القائمة بما يخدم الاستقرار والسلم والأمن والتنمية والتقدم ولا يضر في العلاقات الدولية.
عودة الرئيس بوتين إلى الكرملين ولست سنوات قادمة، وبانتظار ما تسفر عنه الانتخابات الامريكية القادمة بعد ستة اشهر أيضا ستضع أمام الجميع مهمات وتحديات ينبغي النظر إليها بمنظار المصالح الوطنية والقومية وعدم التعامل معها بضيق أفق وقصر نظر، كما حصل مع الاتحاد السوفيتي سابقا. ان دروس التاريخ تعلم من يريد ان يتعلم منها فقط. وهذه مرحلة اخرى حاسمة وحساسة، أمام الدول العربية خصوصا، في كيفية التعامل مع القوى الدولية في تحقيق المصالح العربية الإستراتيجية وبما يخدم العالم العربي والعلاقات المشتركة، ولا يفرط بها كما حفلت به الأعوام الماضية.