شغل الشاعر محمود درويش (1941- 2008) في حياته مكانته الشعرية بجدارة وصار حالة شعرية متميزة في الشعرية العربية المعاصرة خصوصا. وظل بعد رحيله مثار جدل شعري ونقدي وفني نابعا من قدراته وحالته الشعرية. كتب الكثير من النقاد والكتاب دراسات ومقالات وقراءات وكتبا عنه، أطلت عليه وتأملته شاعرا مبدعا وموهوبا بارزا في الإبداع والنتاج الأدبي. أكدت في اغلبها على كونه اسما شعريا عربيا بارزا في المشهد الثقافي العربي والعالمي. ومن بينهم الناقد الدكتور صلاح فضل، الذي ألف كتابا بهذا العنوان: محمود درويش.. حالة شعرية. (دبي 2009). صدر ووزع مرفقا بمجلة ثقافية شهرية خليجية. كتب رئيس تحريرها تقديما للكتاب والشاعر كالعادة ولحقه مدير التحرير أيضا. حيث سجل الأول: "أطلقته القاهرة شاعرا محلقا في سموات الإبداع وتأبطته بيروت سيفا عربيا، وكانت المرافئ العالمية محط حله وارتحاله مع لغة الشعر الخالدة". لكن الناقد صلاح فضل أشار بوضوح في مفتتحه للكتاب: " لا يحتاج الحديث عن الشعرية بمنطق النقد الحديث مقدمة عن الشاعر، خصوصا في حالة محمود درويش، لأنه لا يزال بعد رحيله الموجع يتسرب كالضوء إلى صفحات الصحف العربية، ويمتد بحضوره الباهر إلى جوف الغياب، على حد تعبيره". واستدرك الناقد: " لكن محمود درويش يظل حالة شعرية متفردة، تستحق التأمل مليا في سياقاتها الإبداعية والنصية. كانت حياته مأزقا وجوديا محكوما بتفاصيل حالته الشعرية، عاش موزعا بين الأزمنة والأمكنة والقصائد". ويشرح بدايات الشاعر في قريته وقص سيرته الأولى وانتقالاته واقاماته منطلقا من الحالة الشعرية مداره الذي يشبع قلقه ويداوي جراح روحه ويشعل جذوة إبداعه. ومبتعدا قدر الإمكان من السلطة ومناصبها تخلصا مما يعوق حركته الإبداعية. " ولان حياة الشعراء لا تحسب بالسنوات ولا بالأماكن فحسب، بل تقاس في نهاية المطاف بما أنجزه الشاعر من قصائد ومجموعات، وما أحدثه من اثر في نمو الشعرية التي يكتب بلغتها، فان حصاد محمود درويش قد شارف ثلاثين ديوانا شعريا، من مجموعته الأولى "عصافير بلا أجنحة" التي أسقطها من حسابه عند النشر الأول لأعماله الكاملة، إلى تلك الدواوين التي تركها تمثل بداياته الشعرية "أوراق الزيتون" 1964 وعاشق من فلسطين 1966 ومرورا بعلاماته الكبرى في "حصار لمدائح البحر" 1986 و"أرى ما أريد" 1990 ثم "احد عشر كوكبا" 1993 و"لماذا تركت الحصان وحيدا" 1995 حتى "كزهر اللوز أو ابعد" 2005 و"اثر الفراشة" 2008 إلى جانب عديد من الكتب النثرية والرسائل والسير" (ص 17).
بعد هذا المفتح قدم الناقد قراءته أو تأملاته في ثلاثة فصول، عنونها بالشكل التالي: شعرية العشق، عالم من التحولات، قراءة نصية حالات الشعر والحصار. دارسا فيها ظاهرة شعر محمود درويش وتحولاته وقدرته الفذة على التحول من أسلوب إلى آخر. " فقد بدأ شاعرا غنائيا حسيا يقتفي اثر أستاذه نزار قباني، لكنه كان يضمر إعجابا بعروبة المتنبي وقدرة على استيعاب تيارات الشعر العربي والغربي بأكملها، لم يلبث حينئذ ان يتململ في أهاب الأسلوب الحي ويطمح إلى كتابة قصيدة ملحمية عظمى كما كان السياب يتمنى، لكن شروط الشعر الملحمي لم تعد تتوفر في العصر الحديث" (ص22). ولكن محمود تمكن من أدواته مستفيدا من تطويرات من سبقه، صلاح عبد الصبور والسياب والبياتي وادونيس. واختلافه معهم أو تميزه بما أختص به بشكل وحده مع قضيته وهويته ومأساة شعبه. "هنا ابتكر محمود درويش أسلوبه المتميز الخاص، فهو داخل إطار كل قصيدة يبث عددا من الإشارات الرامزة التي يسهل على قرائه ومستمعيه ان يفهموها في ضوء التواطؤ المشترك على مقصدية واحدة هي قضية فلسطين....استطاع درويش ان يدخل في كل قصيدة "موتيفات" جديدة ولقطات منسوجة بمهارة فائقة تحيل على عالمه الخاص وتحول دون ضياع المعنى وحيرة المتلقي في تحديده عند استعصاء الفهم المنطقي المشترك" (ص23). ورغم نجاح الشاعر في تحقيق المعادلة المستحيلة بين الشعر الحقيقي وسحر التلقي و"كاريزما" الإلقاء - كما رأى الناقد- كان يريد "التخلص" من جاذبية القضية الفلسطينية السياسية ليدخل في منطقة أرحب هي جاذبية الشعر الإنساني الخالد الذي يحتفظ بقوته في كل اللغات والأزمان. فاستعان الشاعر بكل المؤثرات الفنية لكل الفنون الأخرى، واستخدم إشارات الأساطير ومن الكتب الدينية والتراثية، منتهيا في تقنيات خاصة لنصه الجديد، بحيث "تظل حداثة محمود درويش التعبيرية المميزة كامنة في قدرته على صياغة اللفتات التعبيرية الخاصة والاسنادات المجازية الخارقة، والقادرة على تخليق حالة التوتر وقلق المعنى مع بلورة الرؤية، كما تتمثل في استثارة لحظات الوجد وحالات التأمل واستحضار المشاهد البصرية المثرية للمتخيل الشعري والكفيلة بنقل حالة العدوى إلى المتلقي" (ص27). ويختم الناقد فصله الأول في شعرية درويش بقوله ان شعره سيظل كنزا للقراءات المتتالية يرى فيه كل جيل من الشعراء والقراء ومضات بارقة تشير للمستقبل.. وشاهدا على توهج الشعرية.. وقدرة الإبداع الخلاق.
درس الناقد في الفصل الثاني عالم تحولات الشاعر وتطوره. ووجدها تكاد تختزل بشكل مكثف تحولات الشعر العربي المعاصر كله. وهذا جعل شعره يتجاوز بكثير أسبابه المباشرة، واستمد جمالياته وقيمه من مستويات ابعد غورا في صلب الثقافة الإنسانية. وهنا راجع الناقد قدرة الشاعر على تشعير موقفه بجسارة منذ قصائده الأولى وكل شعره. وهو يحلل قصيدته الشهيرة.. سجل أنا عربي. " وكان الموقف نموذجيا يجمع بين العام والخاص، بين الفردي والقومي، وكانت جمالية التعبير عنه مبتكرة نسبيا، لا تقتصر على ما شرع في توظيفه الرواد الأوائل، بل امتزج به الطابع الدرامي الحيوي في صدق وبراءة" (ص36)، وبين ثنايا مقاطع القصيدة وجد الناقد في شعر درويش، خصوصا في مثل هذه القصيدة، ما يمثل أكثر المشاغل براءة وأشدها خطورة في الآن ذاته. ان الشاعر يطمح بالفعل إلى تأسيس الكينونة، لا بمنطق الحجاج العقلي والتاريخي، ولكن بمنطق إيقاظ الحلم وتشعير الموقف الثوري، وتسمية الأشياء بالكلمات العارية البسيطة، وما يحققه حينئذ لا يتمثل في مجرد التعبير عن القضية القومية، وإنما في خلق معادلها الشعري. (ص48).
واصل الناقد في تشخيص التحولات في الأسلوب والمضمون، ونقل عن انتباه الباحثين الأسلوبيين إلى ان هناك عددا من اللمسات الدالة في شعر محمود درويش، من بينها خاصية "التقابل" التي تتجلى في أسلوب القطع والانتقال، والتكرار وجدل الخارج والداخل في النص، وتوازن الإيقاع الدلالي والرمزي معا، والكثافة والتركيز المختزل، والانتقال من نصاعة الرؤية الحسية والحيوية إلى انبهام الرؤيا الشعرية. وانتقالات الشاعر من الشعر الغنائي إلى الدرامي إلى التجريد وبناء الرباعيات في الشعرية العربية، وغيرها. واختتم الفصل في تقييم اقتصاد النص للرموز الحسية الموظفة ومنطق التوازي بين مشاهدات الرؤية في المرايا المتشظية، عبر حبات العنقود التي لن تختلف طبيعتها كثيرا بتراكم أعدادها. " فهو يعتمد عليها.. وكأنه قد اهتدى فيها إلى تحقيق غنائيته الخاصة، سواء أرضيناه بتسميتها ملحمية كما يحلو له ان يتصور، أو صدقناه بأنها متحولة بين أنماط الأساليب التعبيرية حتى تقف على حافة التجريد الرؤيوي كما شهدنا في هذه المتابعة النصية" (ص90).
استمر الناقد في تحليله للنصوص وقراءته لها ولحالات الشعر والحصار كما سماه في الفصل الثالث. مركزا على إبداع الشاعر الذي يطلع من قلب المحنة والعذاب ويحقق رؤية نافذة وخارقة تجعل من ولادة الشعر أعمارا للكون بالحق والخير ونفيا للألم والظلم وارتقاء بالنضال الفلسطيني إلى معراج الروح الإنسانية. مؤكدا على حلم الشاعر ان يكون شعره ملحمة الحياة العربية الحديثة. متبينا " أمرين واضحين في شعر درويش، أولهما انه اخذ يميل إلى تغليب جانب التعبير على التجريد في كتابته، فبوسعنا ان نتمثل جيدا التجربة التي يعبر عنها ونعجب بها، والثاني انه يعمد إلى تشعير اللحظة الوجودية بالوصول بمفارقاتها إلى ابعد مدى وأكثف نقطة، تتجلى عندها ومضة الجدل وهي تبلغ قرارها التصويري والإيقاعي الأخير، وان ما يسعفه لتفادي نثرية السرد هو هذا الوهج الإنشائي، الذي يتخطف عبارته فيكسبها حرارة وحلاوة لا تخلو من مرارة" (ص106). واقر الناقد بفصل الشاعر الحاسم بين الشعر والنثر وإعطائه كل إبداع منهما حقه الإبداعي وميزاته الفاصلة. إلى ان يصل معه إلى الحوار مع الموت إذ لم ير الناقد شاعرا عربيا محدثا أطال التحديق في وجه الموت مثل محمود درويش، مطاردا الزمن في سيناريو الساعات الأخيرة من حياة شاعر. مزواجا بين الغناء والحكي، بين الدراما والملحمة، بين الشعر والنثر. مختتما مع الشاعر بطاقة هويته الأخيرة التي تغلق مع البطاقة التي دخل بها دنيا الشعر دائرة العودة المكثفة للأسلوب الحسي لتشعير دلالات الحياة ومكاشفة معناها بطريقة سردية حميمة. حيث تتشكل القصيدة من خمسة مقاطع مطولة، يبدأ الشاعر كلا منها بلازمة: من أنا لأقول لكم/ ما أقول لكم، ويطرح عددا كبيرا من المواقف والذكريات والأسئلة. جامعا بين الحدس والحس والغيبوبة والأصداء وجهد المهارة والاجتهاد. وهي فواعل الشعر عنده والتي جعلته في سؤال الشعر يقول:
ان القصيدة رمية نرد/ على رقعة من ظلام
تشع، وقد لا تشع/ فيهوي الكلام/ كريش على الرمل
لا دور لي في القصيدة/ غير امتثالي لإيقاعها
حركات الأحاسيس/ حسا يعدل حسا
وحدسا ينزل معنى/ وغيبوبة في صدى الكلمات
وصورة نفسي التي انتقلت/ من أناي إلى غيرها
واعتمادي على نفسي/ وحنيني إلى النبع
لا دور لي في القصيدة إلا/ إذا انقطع الوحي
والوحي حظ المهارة إذ نجتهد.
وختم الناقد الدكتور صلاح فضل كتابه بهذه الكلمات.. فيتمثل مثل كبار المبدعين نشوة الإيقاع العميق، حيث ينبثق الشعر الصافي بهندسة مدهشة فينقل صورة النفس إلى الغير ويضاعف ضوء الحياة ويقهر الموت وهو يخاطبه برقة مذهلة: من أنا لأخيب ظن العدم.
قراءة الكتاب تعطي نكهة اخرى لشعر الشاعر درويش وتتفتح على مخابئ نصوصه الشعرية والنثرية وتتعمق مع الناقد في تأمل الإبداع والتحولات والتطورات في حالة محمود درويش الشعرية ومكانته المتفردة في الشعرية العربية والعالمية، كحامل قضية وإبداع شعري متفرد في آن واحد.
بعد هذا المفتح قدم الناقد قراءته أو تأملاته في ثلاثة فصول، عنونها بالشكل التالي: شعرية العشق، عالم من التحولات، قراءة نصية حالات الشعر والحصار. دارسا فيها ظاهرة شعر محمود درويش وتحولاته وقدرته الفذة على التحول من أسلوب إلى آخر. " فقد بدأ شاعرا غنائيا حسيا يقتفي اثر أستاذه نزار قباني، لكنه كان يضمر إعجابا بعروبة المتنبي وقدرة على استيعاب تيارات الشعر العربي والغربي بأكملها، لم يلبث حينئذ ان يتململ في أهاب الأسلوب الحي ويطمح إلى كتابة قصيدة ملحمية عظمى كما كان السياب يتمنى، لكن شروط الشعر الملحمي لم تعد تتوفر في العصر الحديث" (ص22). ولكن محمود تمكن من أدواته مستفيدا من تطويرات من سبقه، صلاح عبد الصبور والسياب والبياتي وادونيس. واختلافه معهم أو تميزه بما أختص به بشكل وحده مع قضيته وهويته ومأساة شعبه. "هنا ابتكر محمود درويش أسلوبه المتميز الخاص، فهو داخل إطار كل قصيدة يبث عددا من الإشارات الرامزة التي يسهل على قرائه ومستمعيه ان يفهموها في ضوء التواطؤ المشترك على مقصدية واحدة هي قضية فلسطين....استطاع درويش ان يدخل في كل قصيدة "موتيفات" جديدة ولقطات منسوجة بمهارة فائقة تحيل على عالمه الخاص وتحول دون ضياع المعنى وحيرة المتلقي في تحديده عند استعصاء الفهم المنطقي المشترك" (ص23). ورغم نجاح الشاعر في تحقيق المعادلة المستحيلة بين الشعر الحقيقي وسحر التلقي و"كاريزما" الإلقاء - كما رأى الناقد- كان يريد "التخلص" من جاذبية القضية الفلسطينية السياسية ليدخل في منطقة أرحب هي جاذبية الشعر الإنساني الخالد الذي يحتفظ بقوته في كل اللغات والأزمان. فاستعان الشاعر بكل المؤثرات الفنية لكل الفنون الأخرى، واستخدم إشارات الأساطير ومن الكتب الدينية والتراثية، منتهيا في تقنيات خاصة لنصه الجديد، بحيث "تظل حداثة محمود درويش التعبيرية المميزة كامنة في قدرته على صياغة اللفتات التعبيرية الخاصة والاسنادات المجازية الخارقة، والقادرة على تخليق حالة التوتر وقلق المعنى مع بلورة الرؤية، كما تتمثل في استثارة لحظات الوجد وحالات التأمل واستحضار المشاهد البصرية المثرية للمتخيل الشعري والكفيلة بنقل حالة العدوى إلى المتلقي" (ص27). ويختم الناقد فصله الأول في شعرية درويش بقوله ان شعره سيظل كنزا للقراءات المتتالية يرى فيه كل جيل من الشعراء والقراء ومضات بارقة تشير للمستقبل.. وشاهدا على توهج الشعرية.. وقدرة الإبداع الخلاق.
درس الناقد في الفصل الثاني عالم تحولات الشاعر وتطوره. ووجدها تكاد تختزل بشكل مكثف تحولات الشعر العربي المعاصر كله. وهذا جعل شعره يتجاوز بكثير أسبابه المباشرة، واستمد جمالياته وقيمه من مستويات ابعد غورا في صلب الثقافة الإنسانية. وهنا راجع الناقد قدرة الشاعر على تشعير موقفه بجسارة منذ قصائده الأولى وكل شعره. وهو يحلل قصيدته الشهيرة.. سجل أنا عربي. " وكان الموقف نموذجيا يجمع بين العام والخاص، بين الفردي والقومي، وكانت جمالية التعبير عنه مبتكرة نسبيا، لا تقتصر على ما شرع في توظيفه الرواد الأوائل، بل امتزج به الطابع الدرامي الحيوي في صدق وبراءة" (ص36)، وبين ثنايا مقاطع القصيدة وجد الناقد في شعر درويش، خصوصا في مثل هذه القصيدة، ما يمثل أكثر المشاغل براءة وأشدها خطورة في الآن ذاته. ان الشاعر يطمح بالفعل إلى تأسيس الكينونة، لا بمنطق الحجاج العقلي والتاريخي، ولكن بمنطق إيقاظ الحلم وتشعير الموقف الثوري، وتسمية الأشياء بالكلمات العارية البسيطة، وما يحققه حينئذ لا يتمثل في مجرد التعبير عن القضية القومية، وإنما في خلق معادلها الشعري. (ص48).
واصل الناقد في تشخيص التحولات في الأسلوب والمضمون، ونقل عن انتباه الباحثين الأسلوبيين إلى ان هناك عددا من اللمسات الدالة في شعر محمود درويش، من بينها خاصية "التقابل" التي تتجلى في أسلوب القطع والانتقال، والتكرار وجدل الخارج والداخل في النص، وتوازن الإيقاع الدلالي والرمزي معا، والكثافة والتركيز المختزل، والانتقال من نصاعة الرؤية الحسية والحيوية إلى انبهام الرؤيا الشعرية. وانتقالات الشاعر من الشعر الغنائي إلى الدرامي إلى التجريد وبناء الرباعيات في الشعرية العربية، وغيرها. واختتم الفصل في تقييم اقتصاد النص للرموز الحسية الموظفة ومنطق التوازي بين مشاهدات الرؤية في المرايا المتشظية، عبر حبات العنقود التي لن تختلف طبيعتها كثيرا بتراكم أعدادها. " فهو يعتمد عليها.. وكأنه قد اهتدى فيها إلى تحقيق غنائيته الخاصة، سواء أرضيناه بتسميتها ملحمية كما يحلو له ان يتصور، أو صدقناه بأنها متحولة بين أنماط الأساليب التعبيرية حتى تقف على حافة التجريد الرؤيوي كما شهدنا في هذه المتابعة النصية" (ص90).
استمر الناقد في تحليله للنصوص وقراءته لها ولحالات الشعر والحصار كما سماه في الفصل الثالث. مركزا على إبداع الشاعر الذي يطلع من قلب المحنة والعذاب ويحقق رؤية نافذة وخارقة تجعل من ولادة الشعر أعمارا للكون بالحق والخير ونفيا للألم والظلم وارتقاء بالنضال الفلسطيني إلى معراج الروح الإنسانية. مؤكدا على حلم الشاعر ان يكون شعره ملحمة الحياة العربية الحديثة. متبينا " أمرين واضحين في شعر درويش، أولهما انه اخذ يميل إلى تغليب جانب التعبير على التجريد في كتابته، فبوسعنا ان نتمثل جيدا التجربة التي يعبر عنها ونعجب بها، والثاني انه يعمد إلى تشعير اللحظة الوجودية بالوصول بمفارقاتها إلى ابعد مدى وأكثف نقطة، تتجلى عندها ومضة الجدل وهي تبلغ قرارها التصويري والإيقاعي الأخير، وان ما يسعفه لتفادي نثرية السرد هو هذا الوهج الإنشائي، الذي يتخطف عبارته فيكسبها حرارة وحلاوة لا تخلو من مرارة" (ص106). واقر الناقد بفصل الشاعر الحاسم بين الشعر والنثر وإعطائه كل إبداع منهما حقه الإبداعي وميزاته الفاصلة. إلى ان يصل معه إلى الحوار مع الموت إذ لم ير الناقد شاعرا عربيا محدثا أطال التحديق في وجه الموت مثل محمود درويش، مطاردا الزمن في سيناريو الساعات الأخيرة من حياة شاعر. مزواجا بين الغناء والحكي، بين الدراما والملحمة، بين الشعر والنثر. مختتما مع الشاعر بطاقة هويته الأخيرة التي تغلق مع البطاقة التي دخل بها دنيا الشعر دائرة العودة المكثفة للأسلوب الحسي لتشعير دلالات الحياة ومكاشفة معناها بطريقة سردية حميمة. حيث تتشكل القصيدة من خمسة مقاطع مطولة، يبدأ الشاعر كلا منها بلازمة: من أنا لأقول لكم/ ما أقول لكم، ويطرح عددا كبيرا من المواقف والذكريات والأسئلة. جامعا بين الحدس والحس والغيبوبة والأصداء وجهد المهارة والاجتهاد. وهي فواعل الشعر عنده والتي جعلته في سؤال الشعر يقول:
ان القصيدة رمية نرد/ على رقعة من ظلام
تشع، وقد لا تشع/ فيهوي الكلام/ كريش على الرمل
لا دور لي في القصيدة/ غير امتثالي لإيقاعها
حركات الأحاسيس/ حسا يعدل حسا
وحدسا ينزل معنى/ وغيبوبة في صدى الكلمات
وصورة نفسي التي انتقلت/ من أناي إلى غيرها
واعتمادي على نفسي/ وحنيني إلى النبع
لا دور لي في القصيدة إلا/ إذا انقطع الوحي
والوحي حظ المهارة إذ نجتهد.
وختم الناقد الدكتور صلاح فضل كتابه بهذه الكلمات.. فيتمثل مثل كبار المبدعين نشوة الإيقاع العميق، حيث ينبثق الشعر الصافي بهندسة مدهشة فينقل صورة النفس إلى الغير ويضاعف ضوء الحياة ويقهر الموت وهو يخاطبه برقة مذهلة: من أنا لأخيب ظن العدم.
قراءة الكتاب تعطي نكهة اخرى لشعر الشاعر درويش وتتفتح على مخابئ نصوصه الشعرية والنثرية وتتعمق مع الناقد في تأمل الإبداع والتحولات والتطورات في حالة محمود درويش الشعرية ومكانته المتفردة في الشعرية العربية والعالمية، كحامل قضية وإبداع شعري متفرد في آن واحد.