الأربعاء، 8 يونيو 2011

الحراك الشعبي في العراق

تواصل الحراك الشعبي في العراق عقب الغزو والاحتلال الأجنبي عام 2003، وتموجت حالاته طبيعيا حسب تطورات وصعوبات المشهد السياسي وتباينات المواقف والصراعات الداخلية والمؤثرات الخارجية. وتصاعدت مظاهره السلمية بعد توسعها في العالم العربي، ونجاح الثورات الشعبية في تونس ومصر منذ بداية هذا العام. وأضحت السمات التي امتازت بها الثورات نموذجا يقتدى به في الحراك الشعبي في العراق أيضا. كما أصبحت "ساحة التحرير" في بغداد مثالا آخر مستنسخا، بشكل ما، من مثيلتها في مصر، مع استمرار الانتفاض أو الحراك الشعبي السلمي وامتداده إلى المدن العراقية الأخرى، خصوصا في البصرة والناصرية في الجنوب والانبار والفرات الأوسط في وسط العراق، أو السليمانية والموصل في شمال العراق، متخذا أشكالا متنوعة له، حسب ظروف كل مدينة ووسائل الحراك فيها، إلا أن الحراك عموما اشترك في المطالب والأهداف، أو تدرج فيها.
ابرز المطالب كان في إنهاء الاحتلال العسكري الأمريكي، والتخلص من سطوته وهيمنته الإدارية والسياسية وتشكيله لقاعدته الاجتماعية في التكوين العراقي، والدعوة إلى تجسيد استقلال العراق وسيادته، ومكافحة انعكاساته على الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وحتى الثقافية والعلاقات العامة العلنية. وكانت تأثيرات الاحتلال وإدارته خطيرة وكبيرة على مختلف الصعد والبناء الهرمي في قاعدة الحكم والسياسة في العراق خلال السنوات الطويلة التي مرت وما زالت تفعل مفعولها في العملية السياسية التي أسسها الاحتلال والارتهانات المعقدة بين أطرافها والمصالح الفئوية والاثنية والطائفية التي اعتمد الاحتلال عليها كركائز رئيسية في سياسته المعتمدة في التحكم في شؤون العراق.
سياسة الاحتلال الرسمية المعلنة، سواء في الاتفاقية المبرمة بين الحكومتين العراقية والأمريكية حول انسحاب القوات والاتفاقيات الأخرى حول التعاون السياسي والاقتصادي والثقافي والدبلوماسي وغيرها، أو في خطط الهيمنة المباشرة وبسط النفوذ المغلف بتسميات اخرى، منطلقا من فتح قنصليات في اغلب المحافظات والمدن إلى تأسيس مصالح مشتركة اقتصادية بين مؤسسات الاحتلال والمتعاونين معه من أصحابها في المحافظات والمدن التي أعلنت رسميا رغبتها في بقاء الاحتلال واستمراره أو توفير الحاضنة له، عبر هذه الارتباطات العلنية. وقد سبق بعض قيادات الأحزاب الكردية مثلا إلى المطالبة بتامين قواعد عسكرية دائمة في مناطق كردستان العراق وغيرها في مدن أخرى.
هذه الحالة في العراق أعطت للحراك الشعبي سمة خاصة به، تميز بها عن غيره، وفي الوقت نفسه أعطى للحراك معطى التمييز داخل العراق أيضا بين من يواصل الاحتجاج والمطالبة شعبيا وعلنيا وبين من يحاول المراوسة بين الالتحاق بالغضب الشعبي علنا والتماهي مع مصالح الاحتلال سريا، وبين التعامل المبطن بين مصالح الاحتلال والمؤثرات الإقليمية الخارجية، المكشوفة والمستورة، المعلنة والسرية، التي كشفت بعضها وثائق الويكي ليكس، أو المعلومة بداهة من خلال سياسات الحكومات المعلنة إزاء الاحتلال نفسه أو تسهيل استمراره وخدمته عمليا بشتى الوسائل والسبل، يضاف لها توظيف وسائل الإعلام التابعة لها وسعيها منذ تأسيسها إلى تنفيذ أو تغطية المخططات الاستعمارية في العراق وما يحيط به مستقبلا.
صحيح اخذ الحراك الشعبي العلني في الأشهر الأخيرة طابعا سلميا تدرجيا، ركز أولا على المطالبة في الوفاء للوعود والشعارات التي رفعت بعد احتلال العراق عام 2003 وما زالت مصفوفة على رفوف العملية الجارية على مختلف الصعد، لاسيما في مسألتي الخدمات الأساسية والحاجات الرئيسية للشعب، الذي عانى طويلا من سياسات مستمرة من الديكتاتورية البغيضة والاستبداد السياسي والفساد العام في مختلف مناحي حياته اليومية. لكنه طالب ضمنا أو أساسا برفض ما مارسه الاحتلال من سياسات انتهاكات رهيبة لحقوق الإنسان واستغلال بشع لثروات العراق المادية والبشرية واستثمار الصراعات الداخلية لخدمة مشاريعه التي وضعت بعض أسس تلك الصراعات وعمل لديمومتها في مخططات مدروسة وموضوعة لآماد ابعد من تاريخه. وبديهي لن يتوقف الحراك عند هذا الطابع.
يشهد الآن على تدهور الوضع استمرار الإرهاب الدموي، والقمع الوحشي والعنف الرسمي وصعود الخلافات إلى واجهة العرض السياسي العلني، وتبادل الاتهامات والتهرب من الالتزامات والمسؤوليات والجنوح إلى انتظار الاستشارات الاستعمارية على حساب الاستماع إلى غضب الشارع العراقي والحراك الشعبي، والابتعاد عن الاعتماد على الشعب في التصدي لسياسات الاحتلال والاختلال القائمة في العراق. يضاف له افتقاد مواجهة التحديات المتعددة بحلول وطنية ورفض مناهج حافة الأزمة السياسية وتقاسم الأدوار في تعميقها أو استمرارها والامتناع عن ضرب مصادر الفساد والإفساد والتهرب من توفير حاجات ومطالب الشعب التي أعلنها اليوم في احتجاجات سلمية وتظاهرات شعبية وحراك واضح، يرسم المسؤوليات ويدعو إلى الوقوف بشرف أمام الشعب والتاريخ.
يحمل الحراك الشعبي مهمات وطنية كثيرة لا تنتهي عند هذه الحدود، كما ينبغي إلا يتوقف أمام وسائل القمع والعنف الجارية ضده، ويتطلب الوضع صمودا وإصرارا على تحقيق الهدف المركزي في إنهاء الاحتلال العسكري والسياسي وبناء قدرات وطنية قادرة فعلا على التحدي ومواجهة ما بعد الاحتلال. ما بعد انتصار الثورات في تونس ومصر يؤشر لمهمات كبيرة ونجاحها يعتمد على الحراك الشعبي وطاقات الجماهير، وهو درس للحراك الشعبي في العراق مع تميزه بالتخلص من احتلال مباشر وقوة غاشمة لها مخططات هيمنة عالمية.