أثارت رسالة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى القيادة الإيرانية، والموجهة باسم قائد الثورة السيد علي خامنئي لغطاً واسعاً في وسائل الإعلام وخاصة الناطقة بالعربية، أو التي تأسست أساساً لشن حروب الإعلام على الجمهورية الإسلامية في إيران. ومنذ وصول رسالة ترامب واستلامها في طهران عبر طرف عربي، هو هذه المرة، الجار ل إيران في الساحل المقابل من الخليج، دولة الإمارات العربية، والتي سربت أجزاء منها، أو الأصح فبرك منها ما يراد أو يتفق مع كل إعلان خبري من مصادر مكلفة بواجبها، لا تذكر لوسائل الإعلام إلا ما هو مطلوب منها، دون تأكيد من المرسل أو المستلم لتلك الرسالة. وكان ترامب أول المتحدثين عن رسالته قبل أيام من وصولها إلى إيران. حيث صرح في مقابلة تلفزيونية مساء (2025/3/7)، بأنه كتب رسالة إلى "المرشد الإيراني علي خامنئي في محاولة لإطلاق محادثات بشأن البرنامج النووي لإيران". ولم يصدر عن الجانب الإيراني أي خبر عنها.
لكن المتحدث باسم الخارجية الإيرانية إسماعيل بلقائي صرح يوم (2025/3/17) عن استلام رسالة ترامب ولا نية لنشر فحواها، وما يتم تداوله ليس دقيقاً، لافتاً إلى أن " الولايات المتحدة لم تكن وفية لالتزاماتها". وأضاف أن محتوى رسالة ترامب لإيران مماثل لتصريحاتها العلنية، وأن الرسائل التي نتلقاها من أمريكا متناقضة.
أما وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي فرأى أن الرسالة التي بعث بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الجمهورية الإسلامية بشأن برنامجها النووي هي “أقرب إلى تهديد”، وأن طهران ستردّ عليها خلال فترة قريبة. وقال عراقجي في تصريحات للتلفزيون الرسمي إن الرسالة تزعم توفير “فرص”، لكنها كانت “أقرب إلى تهديد”، مشيراً إلى أن إيران تقوم حالياً بدراستها وستردّ عليها “خلال الأيام المقبلة”.
وصف القائد خامنئي دعوة ترامب للتفاوض بأنها خداع للرأي العام، قائلاً إذا أردنا إنتاج سلاح نووي "فلن تتمكن واشنطن من إيقافه، ونحن أنفسنا لا نريد أن نفعل ذلك". وذكر: "إن قول الرئيس الأميركي إننا مستعدون للتفاوض مع إيران ودعوته للمفاوضات هو خداع للرأي العام العالمي". وأبرز: "التفاوض مع الحكومة الأميركية الحالية لن يؤدي إلى رفع العقوبات بل سيجعل عقدة العقوبات أكثر تعقيداً". وأكد: "إيران لا تسعى للحرب، ولكن إذا أقدم الأميركيون وعملاؤهم على خطوة خاطئة، فإن إجراءات إيران المضادة ستكون حاسمة ومؤكدة، والخاسر الأكبر هو أمريكا".
واضح أن محتوى هذه الرسالة، وما أحاطه من فبركات الإعلام وتضليله، لم يكن جديداً، في الإستراتيجية التي اختارها ترامب منذ عهده الأول، وما إن أعلن عن فوزه في الفترة الثانية ودخوله البيت الأبيض لعهد جديد ظهرت أسئلة كثيرة حول الموقف من إيران، ودورها في منطقتها، وما قام به عملياً، من تنفيذه لخطط عدوانية صريحة، كشفت عنها مصادر مطلعة، لصحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، إنه ينوي فرض عقوبات أكبر على إيران وخنق صادراتها النفطية، ضمن "إستراتيجية تهدف إلى تقويض برنامجها النووي ودعمها لوكلاء لها في الشرق الأوسط" (!). وأضافت المصادر أن الفريق الجديد الذي شكله ترامب للتعامل مع ملف إيران، "سيتحرك سريعاً لاستهداف صادرات النفط الإيرانية، عبر وسائل من بينها ملاحقة الموانئ الأجنبية والتجار الذين يتعاملون مع نفط طهران". أي بمعنى إحياء الإستراتيجية التي تبناها ترامب خلال ولايته الأولى، والتي تعتمد على سياسة أطلق عليها اسم "سياسة الضغوط الأقصى" على إيران. وموقفه المعارض من المعاهدة التي تمت وصادق عليها مجلس الأمن الدولي وانسحب منها، إضافة إلى ارتكاباته المخططة من جرائم اغتيال الشهيدين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، وقيادات عسكرية وسياسية أخرى، وما يشبهها من جرائم حرب ومجازر إبادة، إلى مواقفه من ممارسات وحشية، توصم ترامب وعهده الثاني، بشكل صارخ.
ومنذ دخوله البيت الأبيض مرة ثانية اهتم علناً وسراً بما سمي بإستراتيجية ترامب تجاه إيران، التي أكدت على أن العقوبات الاقتصادية يمكن أن تجبر طهران على الخضوع، إذ تسببت خلال فترة ولاية ترامب الأولى، في أضرار اقتصادية شديدة في إيران، مما أدى إلى خفض صادراتها النفطية إلى جزء بسيط من مستوياتها التي كانت عليها ما قبل العقوبات، وارتفعت معدلات التضخم، ومعدلات البطالة، وتراجع الاستثمار الأجنبي وتصاعدت الضغوط السياسية والاقتصادية بشكل عدواني سافر. واعترف الأعداء لإيران قبل غيرهم ومن بينهم الإدارة الأمريكية ومستشارو ترامب، على الرغم من هذه التأثيرات الاقتصادية، في مقاومة إيران وعدم تقديم تنازلات كبيرة، وبدلاً من ذلك، ضاعفت برنامجها لتخصيب اليورانيوم، وسعت إلى أساليب جديدة للتهرب من العقوبات، وواصلت دعمها لكل القوى المناضلة من أجل تحررها والتصدي لسياسات الإمبريالية الأمريكية في الاحتلال والاستغلال والحروب والدمار، وتطوير إمكاناتها الرادعة وتحالفاتها مع الدول الأخرى، مثل الصين والاتحاد الروسي وكوريا الشمالية، وأعضاء مجموعات شنغهاي والبريكس ودول أخرى من أمريكا الجنوبية وأفريقيا، فضلاً عن الاتفاقيات الأمنية وحسن الجوار مع محيطها الجغرافي.
هناك إشارات سابقة تشير إلى تركيز ترامب على الملف الإيراني، حتى قبل أن يتسلم السلطة رسمياً، منها مثلاً، إرساله الملياردير إيلون ماسك، الذي اختاره لوزارة سميت بـ "الكفاءة الحكومية" ضمن إدارته الثانية، للقاء سفير الجمهورية الإسلامية لدى الأمم المتحدة في نيويورك أمير سعيد إيرواني، وكذلك اختياره لأشخاص معادين لإيران في مواقفهم وتصريحاتهم المعلنة. مثل السناتور ماركو روبيو، الذي اختاره وزيراً للخارجية، وهو يؤيد اتباع سياسة خارجية صارمة ضد إيران، كذلك مايك والتز، الذي أصبح مستشاره للأمن القومي، وكان قد دعا إلى اتخاذ موقف أكثر حزماً ضد إيران. مما يعني أن الملف الإيراني كان قائماً وبارزاً على طاولة رئاسة ترامب في البيت الأبيض، وكذلك المواقف الرسمية المخططة سلفاً والسعي لتنفيذها لاحقاً، أو ما يمكن أن يحصل في العلاقات الأمريكية الإيرانية والمنطقة التي تقع إيران فيها.
قبل أن ينشر خبر الرسالة الجوابية للقيادة الإيرانية على رسالة ترامب، أكد وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي مسبقاً ومبكراً (5/2/2025) أن سياسة "الضغوط القصوى" التي أعاد الرئيس الأميركي ترامب فرضها ضد إيران ستنتهي بالفشل كما حدث خلال ولايته الأولى. وقال عراقجي عقب اجتماع للحكومة: "الضغوط القصوى تجربة فاشلة، وتجربتها مرة أخرى لن تؤدي إلا إلى فشل آخر"، مشدداً على أن إيران لا تسعى إلى امتلاك أسلحة نووية. وبالتأكيد لا تتضمن الرسالة التي ستكون رداً إيرانياً ما هو أبعد عن الموقف الإيراني الواضح من سياسات الولايات المتحدة وما نقل من تصريحات قائد الجمهورية الإسلامية في إيران ورئيس الجمهورية مسعود بزشكيان في خطابه في عيد النوروز، رأس السنة الجديدة في إيران، وصولاً إلى تصريحات وزير الخارجية عراقجي والناطقين الرسميين باسم السلطات والوزارات المعنية بالأمر، قبل وبعد رسالة ترامب.
سياسيات ترامب وإدارته ضد إيران وتسميتها بالضغوط القصوى، تستهدف تجريد إيران من قوتها العسكرية والاقتصادية من خلال فرض مزيد من العقوبات، التي تعمل على حرمان إيران من الأسلحة النووية والحد من برنامجها للصواريخ الباليستية ووقف دعمها لمحور المقاومة والدول المساندة للمقاومة الإسلامية ضد الاحتلال والغزو والاضطهاد والاستيطان والتهجير والإبادة الجماعية. وكان قد وقع ترامب على مذكرة بهذا الخصوص، جاء في المذكرة أن "سلوك إيران يهدد المصلحة الوطنية للولايات المتحدة"، وأن من الضروري فرض أقصى قدر من الضغط على النظام الإيراني لإنهاء تهديده النووي وكبح أنشطته الإقليمية (!).
أضاف ترامب إلى المذكرة السابقة تصريحات أخرى قد تفهم متناقضة معها، إلا أن سياسات ترامب وتصريحاته تتطابق مع ممارسات غامضة الأهداف والنوايا فقد صرح بعد المذكرة وقبل الرسالة، بأنه يأمل التوصل إلى اتفاق نووي جديد "لتجنب وضع كارثي للغاية"، مشيراً إلى استعداده للتفاوض مع القيادة الإيرانية. وهذا التناقض قد يفسر محتوى الرسالة ومضمونها الذي يجمع بين التهديد بالدمار والدعوة إلى التفاوض. كما أشير أيضاً إلى تحديد مدة زمنية بحدود الشهرين للوصول إلى النهايات المخطط لها، سلماً أو حرباً، سياسياً أو عسكرياً.
إزاء كل ما ذكر، أكدت المتحدثة باسم الإدارة الرئاسية الإيرانية فاطمة مهاجراني أن السياسة الخارجية الإيرانية تقوم على ثلاثة مبادئ، وهي "الكرامة والحكمة والنفعية"، مشددة على أن جميع القضايا -بما فيها العلاقات الدولية- تدار وفق هذه المبادئ. كذلك، أفاد مسؤول إيراني كبير لوكالة رويترز أن طهران مستعدة لمنح الولايات المتحدة فرصة لحل الخلافات بين البلدين. وأوضح المسؤول أن طهران ترفض "أي تهجير لسكان غزة"، مشيراً إلى أن المحادثات بين إيران والولايات المتحدة قضية منفصلة. وأضاف أن طهران تتوقع من واشنطن "كبح جماح إسرائيل" إذا كانت تسعى إلى التوصل إلى اتفاق مع الجمهورية الإسلامية في إيران.
رسالة ترامب إلى القيادة الإيرانية، جوهرها وهدفها وأسلوبها، لا تخرج من أبعاد سياسة ترامب تجاه إيران ولا تبتعد عن تحجيم دور الجمهورية الإسلامية في المنطقة واستغلال ما آلت إليها ظروفها حالياً، وإضعاف المحور المقاوم لسياسات الإمبريالية والرأسمالية الغربية التي تتوحش في وطننا العربي والإسلامي معاً
نشر في مجلة الهدف العدد (69) (1543)شهر اذار/مارس 2025.